كتبت فى الأسبوع الماضى عن أحد صناع الخير الكبار فى مصر، وعندما نشرت المقال انهالت علىّ كلمات الثناء عليه وكتب إلىّ العشرات بمواقف نبيلة وقفها الرجل إلى جوارهم حينما كانوا فى المعتقل حيث لا حول ولا قوة لهم، فمن يكرم معتقلاً ضعيفا مريضا وهو فى قمة السلطة لن ينتظر الأجر إلا من الله، وهكذا كان فارسنا النبيل.
لم أتوقع هذا الكم من الثناء عليه من القراء الذين تعاملوا معه وعرفوه وعاشروه، كان رحيما عطوفا كريما حانيا، يبذل المعروف، لا يتأخر عن أى طلب إنسانى، يتقن ويبدع فى صناعة الخير.
إنه اللواء خالد خلف الله مفتش الأمن الوطنى بالوادى الجديد والذى حول سجن الوادى الجديد فى عهده من أسوأ السجون فى الدنيا إلى أفضلها قاطبة، حوله إلى جامعة وإلى مكان علمى وثقافى وإلى روضة جميلة، مسابقات علمية وأدبية، مسرحيات فى الأعياد، مسابقات رياضية فى شتى الرياضات، امتحانات متواصلة بدءًا من الثانوية العامة وحتى الماجستير والدكتوراه، قوافل طبية وجراحات متوسطة فى السجن، وترحيل للمعتقلين لإجراء الجراحات الكبرى فى مستشفيات جامعة أسيوط، كل ذلك يبدعه بنفسه ويشرف عليه بشخصه رغم أنها ليست من صميم اختصاصاته.
هو أول من أنشأ مكتبة علمية ثرية متنوعة فى سجن الوادى الجديد، وهو أول من بدأ فكرة إحضار عربات الأحوال المدنية لاستخراج بطاقات الرقم القومى للمعتقلين وعندما نجحت فكرته فى سجن الوادى قام المرحوم اللواء أحمد رأفت أحد عباقرة مصر فى الأمن السياسى بتعميم الفكرة على كل المعتقلات فتمت فى سجون الفيوم والعقرب والاستقبال، ودمنهور ووادى النطرون وكانت هذه طفرة كبيرة، لم تحدث إذ كانت معظم بطاقات المعتقلين ورقية ضاعت مع الأحداث المتعاقبة.
وهو أول من فكر فى عمل دورات رياضية للمعتقلين فى سجن الوادى الجديد وإقامة حفل كبير فى ختام الدورات كان يحضره مع مسئولين آخرين ويسلم الجوائز للفرق الفائزة، وتطور هذا لعمل مسرحيات من تأليف وإخراج المعتقلين فى معظم سجون مصر وخاصة فى الأعياد وكان يحضرها ضباط الأمن الوطنى والسجون، وكان فيها من الإبداع ما فيها رغم ضعف الإمكانيات.
واللواء خلف الله هو أول من فكر فى عمل نظارات طبية للمعتقلين وخاصة أن بعضهم قد مكث عدة سنوات وتدهور نظره ولم تعد نظارته القديمة صالحة فأحضر الأطباء وأجهزة الفحص بالكمبيوتر وكانت جديدة وقتها وقام بإهداء نظارات كثيرة للمعتقلين الفقراء عن طريق الجمعيات الخيرية التى كانت تعشق صناعته للخير وأظنها لم تر مثيلاً له فى حب الخير والإبداع فى صناعته.
وقد تكرر ذلك فى عدة سجون انطلاقا من تجربته، فقام الدكتور عزت نصيف استشارى العيون بدمنهور باستئذان الأنبا باخوميوس فى جهاز فحص العين بالكمبيوتر الخاص بالكنيسة لمعتقلى سجن دمنهور فرحب بشدة وتم فحص مئات المعتقلين، ورفض د/عزت نصيف وقتها أن يأخذ أى أجر نظير ذلك.
ومن أبدع ما صنعه اللواء خالد خلف الله من معروف أيام مبادرة منع العنف أنه أحضر ورش التدريب المهنى إلى السجن بموظفيها ومدرسيها وأمرهم بتدريب من يرغب من المعتقلين مع إعطائهم شهادة رسمية بذلك وكان يصرف لهم خمسة جنيهات يوميا.
فضلاً عن استجابته للرغبة الرائعة للواء/أحمد رأفت فى تيسير وتسهيل زيارة المعتقلين لبيوتهم لحضور العزاء إذا توفى أحد والديهم أو زيارة الأم أو الأب المريض.
ولما كان سجن الوادى بعيدا عن محافظات المعتقلين مثل سوهاج وقنا وأسيوط وأسوان فقد أبدع حلاً عبقريا لتوصيل المعتقلين المفرج عنهم من صحراء الوادى السحيق إلى مدينة أسيوط ثم يكملون بعد ذلك مسيرتهم فى العمران.
وقد تفتق ذهن هذا العبقرى الرحيم فى فكرة إنسانية رائعة وهى إحضار أخصائى الأطراف الصناعية لعمل أطراف صناعية للمعوقين بعدما وجد عدة معاقين فى المعتقل، بعضهم مبتور القدم أو القدمين معا.
وقد عمم اللواء/أحمد رأفت عبقرى المبادرة بهذه الفكرة فى السجون الأخرى وكان ذلك مجانا تماما.
فلما خرج المعتقلون وأصبح اللواء/خالد خلف الله مديرا للأمن الوطنى بسوهاج حول المحافظة إلى قلعة لصناعة الخير للفقراء جميعا فهو صاحب فكرة «العرس الجماعى» للأيتام عامة ولبعض المعتقلين الفقراء، وكان يتم كل عام وكان يفخر دائما بهذا المشروع العظيم حيث لم يكن يتكلف العروسان شيئا فقد أحضر لهم بمساعدة أهل الخير وصناعه من أحبابه ومريديه مع الجمعيات الخيرية كل الأجهزة الكهربائية، وكان الفرح الجماعى يتم كل عام لقرابة مائة عريس وعروسة فى الاستاد الرياضى ويحضره كل المسئولين مع المحافظ وفريق اللواء خلف الله.
وكان ذلك أكثر شىء يفخر به ويعتز به ويتقرب إلى الله به، كان إذا حدثك عنه تشعر بالفخر بمثل هذا المحسن النادر، وتشعر بلمعة عينيه سعادة بإنجازه الإنسانى، فلم ينتظر يوما من هؤلاء ولا غيرهم جزاءً ولا شكورا.
ومن إبداعاته الخيرية اختياره لأماكن رائعة تحت الكبارى وإنشاء أكشاك للمفرج عنهم من المعتقلين بأثمان زهيدة جدا.
لقد عرفت اللواء خلف الله عن قرب وأحببته، وما زلت أحبه بصدق دون مصلحة دنيوية بيننا، كنت أرى فيه نموذجا إنسانيا فريدا لا يتكرر فى العطاء والكرم والإنسانية والرحمة، وهو من أهم الشخصيات التى منحت الدعم اللامحدود للواء/ أحمد رأفت لإنجاح فكرته العبقرية فى مبادرة منع العنف وهو ممن وهبوا المبادرة قبلة الحياة، ورغم ذلك لم تمنحهما الدولة حتى الآن جائزة الدولة التقديرية.
تحية لكل صناع الخير، وتحية لرائدى الخير العظام اللواء/أحمد رأفت واللواء/خالد خلف الله، ولعل ما صنعه الرجلان وتلاميذهما يوضح للجميع عمق وجدارة فكرة المبادرة التى دشنها رجال مخلصون من الجماعة الإسلامية مع أخلص فريق أمنى قاده اللواء أحمد رأفت، ولم يكن أمرا سطحيا بسيطا كما يظنه البعض.
سلام على المحسنين المخلصين لله وأوطانهم وسلام على اللواء/خلف الله.
منذ 4 ساعات