حكايات| بيع «قصر البارون» في المزاد ب1.5 مليون جنيه ولم يقدر أحد على شرائه

يعتبر قصر البارون إمبان فى مصر الجديدة تحفة فنية، تقف وراءها قصة طويلة للمليونير البلجيكي إدوارد إمبان الذي شيّد القصر على الطراز الهندي، وأنفق عليه أموالًا طائلة، وأبدع فى كل تفاصيله من تحف ورياش، ولكن بعد رحيله تعرض للإهمال وعرضه الورثة للبيع فى مزاد وتعثر البيع بسبب ثمنه الخيالي، إلى أن بيع لاثنين من سوريا والسعودية، قبل أن تشتريه وزارة الإسكان المصرية فى عام 2005، ويعاد ترميمه وافتتاحه كمزار تاريخى وسياحى عام 2020. أما حكاية إنشاء القصر وصولًا إلى إقامة مزاد لبيعه، فهى تفاصيل مجهولة لم تسجلها إلا صفحات «آخرساعة» فى تقرير نعيد نشره بتصرف محدود فى السطور التالية:

إدوارد إمبان اشترى الفدان بجنيه عام 1905 وبعد 53 سنة وصل السعر لـ30 ألفًا

لوحات لمايكل أنجلو ودافنشى وتماثيل من المرمر وساعة تعزف لحن الدانوب

قصر البارون إمبان بمصر الجديدة عُرِض فى المزاد العلني، في (14 أغسطس 1963)، وفاء لدين لا يزيد على 50 ألف جنيه، وكانت محتويات هذا القصر قد بيعت فى مزاد علنى فى سنة 1954، فقد عرض القصر نفسه للبيع، ولكنَّ أحدًا لم يجرؤ على شرائه، والسبب أن أصحابه كانوا يطالبون بمبلغ مليون ونصف مليون جنيه ثمنًا للقصر.

والبارون إمبان الذي مات فى سنة 1929، هو واحد من الأجانب الذين امتصوا من دماء هذا الشعب أكثر من 10 ملايين جنيه، وكان يعيش فى هذا القصر حياة أشبه بحياة ألف ليلة وليلة، حتى أنهم أطلقوا على قصره اسم «قصر الأساطير الهندي»، وكانت ثروة البارون تزيد على 40 مليون جنيه موّزعة فى بلادنا، وفى جمهورية الكونغو، وفرنسا وبلجيكا.

وكانت قصة هذا البارون الذى امتص دماء شعبنا قصيرة للغاية، وتبدأ فصولها فى سنة 1905.. واسمعوا القصة المثيرة من أولها:

في سنة 1905 حين كانت الامتيازات تُعطى للأجانب بلا حساب، تقدّم البارون إدوارد إمبان، وكان يتمتع بالجنسية البلجيكية مع باغوص نوبار الأرمني، يطلب السماح بمنحه امتياز استغلال المنطقة المعروفة بـ«واحات العباسية»، وشهد يوم 23 مايو من العام ذاته إحدى حلقات استغلال الأجانب خيرات بلادنا، يوم توقيع عقد تعمير واستغلال منطقة واحات العباسية.

اقرأ أيضًا | خلال رحلتها بمصر.. ملكة بلجيكا تزور قصر البارون| صور

الفدان بجنيه

لقد باعت الحكومة المصرية مساحات شاسعة بسعر جنيه واحد للفدان! وقد وصل ثمن هذا الفدان اليوم إلى 30 ألف جنيه، أى أن البارون إمبان ربح فى الفدان الواحد 29 ألفًا و999 جنيهاً.. رقم خيالى لم يطمع به أى مستغل لأمواله.

رموه بالجنون

وكانت أحلام الرجل طاغية.. إن له ملايين عديدة يستغلها فى أكبر مناجم الحديد فى بلجيكا ومناجم الماس فى الكونغو، وله نصف أسهم شركة مترو باريس.. ولم يكلف أحد المسئولين المصريين الذين وقعوا عقد الامتياز نفسه مجرد سؤال: لماذا يرمى هذا الرجل ملايينه فى هذه المنطقة بالذات؟

إن ملايين الرجل تدر عليه كل عام مليونًا كاملًا من الجنيهات، فلماذا يسعى إلى مصر؟ لقد رموه يومها بالجنون، وعاش بعضهم حتى أثبتت لهم الأيام أنهم هم المجانين.

2 مليون جنيه

وتكونت شركة مصر الجديدة برأس مال قدره 2 مليون جنيه، وبدأ الرجل يقيم مشروعه على الورق، ثم على الصحراء.. أنشأ عددًا ضخمًا من العمارات على الطراز البلجيكى الكلاسيكي، لا تزال حتى الآن الطابع الرئيسى لمعظم مبانى مصر الجديدة.. أنشأ الخط الحديدى الكهربائى الموصل إلى المنطقة، وأقام فندقًا ضخمًا وسط هذه المبانى لجذب النشاط إلى المنطقة هو فندق «هليوبوليس بالاس» (قصر الاتحادية الرئاسى حاليًا)، ووسط كل هذا أقام لنفسه قصر الأساطير على أحد تلال مصر الجديدة.

مملكة مصر الجديدة

وكان اختيار البارون إمبان لمكان القصر يدل على شخصيته.. كان يشعر أنه مالك مصر الجديدة.. أنها مملكته .. ولا ينقصه إلا قصر عالٍ يشرف منه على هذه المملكة الغريبة التى أقامها وسط بلادنا، فبنى القصر على هذه الربوة العالية التى تطل على معظم ضاحية مصر الجديدة، قصر له برج خماسى الشكل يعلوه بحوالى 15 مترًا، كان يجلس فيه ليشرف على مملكته ساعة الغروب، كما كان يقول لأصدقائه.

تكلف إنشاء القصر مليون جنيه، وكغيره من أصحاب الملايين، كانت للرجل هواية غريبة هى جمع أغرب تحف العالم.

صائد التحف

كان مجرد سماعه خبر العثور على تحفة نادرة يذهب بعقله، ويستقل طائرة خاصة على الفور إلى حيث يعثر على التحفة، وكم من مرة نقلته الطائرات الخاصة إلى أعماق الصين والهند جريًا وراء تحفة نادرة يضمها لمجموعة تحفه فى قصر الأساطير بمصر الجديدة.. لقد أنفق البارون مليونين من الجنيهات فى جريه وراء التحف التى احتوتها جنبات القصر.

ولكن كيف تكلف القصر الهندى هذا المبلغ الخيالى الذى نافس به البارون إمبان قصور الأسرة المالكة السابقة؟

إن جولة داخل القصر كفيلة بألا تسأل نفسك هذا السؤال، فالقصر تحفة من أبدع ما أخرجه الفن الهندي. وكان الرجل مغرمًا بالعمارة الهندية، والقصر يكاد يكون مجموعة متماسكة من التماثيل: الشرفات مرفوعة على رؤوس الفيلة، والنوافذ تحيط بها تماثيل بوذا وآلهة الهند القديمة، وتماثيل القصر كلها من المرمر النادر أو الرخام، بالإضافة لبرج القصر ذى الشكل الخماسى البديع الذى يشرف على معظم منطقة مصر الجديدة، والدرابزين الموصل للأدوار العُليا مصنوع من الرخام المغطى بصفائح من البرونز، ومزين بتماثيل هندية دقيقة النحت من البرونز أيضًا، وسقوف القصر عليها نفس نقوش قصر فرساى الذى عاش فيه ملوك فرنسا قبل الثورة، فقد كان يقلد الملوك فى كل شيء، حتى وصل ما كان ينفقه فى الشهر الواحد على القصر إلى 20 ألف جنيه.

وهناك مجموعة ضخمة من لوحات أشهر فنانى عصر النهضة ومن أتى بعدهم، لوحات لمايكل أنجلو، وليوناردو دافنشي، ورامبرانت، وساعة ليس لها مثيل إلا فى قصر باكنجهام مقر ملوك بريطانيا الرسمي، والساعة تعزف عشرة ألحان من بينها لحن الدانوب الأزرق الشهير، وتبيّن الوقت بالثوانى والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنين ودرجة الحرارة وأوجه القمر.. حتى بذور أشجار الفاكهة المنتشرة فى حديقة القصر اشتراها الرجل من الهند أيضًا.

إن قصة هذا القصر لم تنتهِ، فبعد وفاة إدوارد إمبان يوم 22 يوليو 1929، واحتُفِل رسميًا بدفنه بمصر الجديدة فى 17 فبراير 1930، وبعد وفاة صاحب القصر انتقلت ملكيته إلى ابنه «جان»، وعندما مات جان فى 7فبراير 1946 تشاءم الورثة من الإقامة فى القصر الهندى واختاروا لهم قصرًا بعيدًا عنه فى مصر الجديدة يقيمون فيه عند حضورهم إلى مصر.

للبيع!

أما القصر الكبير فقد طرحوه للبيع بما فيه من تحف، ولكن الثمن الباهظ الذى طُلِب فيه لم يجعل أحدًا يقترب منه، فقد ظل معروضًا للبيع بتحفه سبع سنوات كاملة.. وأخيرًا لم يتقدم له إلا أصحاب الملايين..

تقدّم الأمير فيصل ولى عهد السعودية ورئيس وزرائها لشراء القصر، لكنه تراجع عندما سمع أن الثمن مليون ونصف مليون جنيه، ثم تقدّم وكيل أعمال الأمير عبدالله المبارك الصباح بعرض شراء هذا القصر، لكن الصفقة لم تتم، ثم فكرت السفارة الهندية فى الانتقال إلى القصر على اعتبار أنه قطعة من الفن الهندي، لكنها لم تنفذ فكرتها. ولما يئس الورثة من بيعه بتحفه أعلنوا عن مزاد علنى لبيع تحف ورياش القصر، وفى يوم 28 أبريل 1954 دخلت القصر أفواج المتزايدين ويومها بيعت تحف القصر بأثمان هزيلة، ولم يتبقَ منها سوى الساعة الأثرية التى ظل مصيرها مجهولًا.

للبيع مرة أخرى

ومع البحث عن مصير الساعة، ظل البحث عن مصير القصر الذى شهد ليالى ألف ليلة وليلة، وشهد ألفًا من الجنيهات تُصرف عليه كل ليلة من ليالى هذه الحفلات.. وأعيد عرض القصر للبيع سنة 1957 وتقدّم أحد المواطنين العرب لشرائه ليهدمه ويقسم أرضه ويبيعها من جديد، لكن قيود الهدم لم تسمح بذلك.

(«آخرساعة» 15 أغسطس 1962)


المزيد من بوابة أخبار اليوم

منذ 11 ساعة
منذ 11 ساعة
منذ ساعتين
منذ 5 ساعات
منذ 6 ساعات