منذ قرابة 76 عاما وفور تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي على حساب فلسطين التاريخية عام 1948، أشرف رئيس الوزراء الإسرائيلي وزير الدفاع آنذاك، ديفيد بن جوريون، على بلورة نظرية أمن قومي منبثقة من أطروحة «الجدار الحديدي»، واستندت إلى قلة عدد سكان إسرائيل مقارنة بمحيطها العربي، وافتقادها إلى عمق دفاعي لمحدودية مساحتها الجغرافية، ولذا اعتمد نموذج «كل الشعب جيش» والذي يجعل جيش الاحتلال أكبر جيش في العالم من حيث حجمه الذي يعتمد على قوات الاحتياط مقارنة بعدد السكان.
وبُنيت نظرية الأمن الإسرائيلية على ثلاث مرتكزات هي: الردع، التفوق الاستخباري، والحسم السريع، ففيما يتعلق بالردع يتم عبر امتلاك قوة عسكرية متفوقة تثني الخصوم عن مهاجمة إسرائيل خوفا من التعرض للتدمير على يد جيشها، والذي رغم كونه جيشا نظاميا صغيرا، لكن مع قوات احتياط ضخمة وفق نهج «كل الشعب جيش».
أما التفوق الاستخباري؛ بهدف توفير إنذار مبكر يتيح إحباط التهديد بشكل استباقي، كما يوفر الفرصة لتعبئة الاحتياط في الوقت المناسب للتصدي للتهديدات، باعتبار أن تعبئة الاحتياط تمثل ضرورة.
ويعتمد التفوق الاستخباري على المصادر المتعددة لجمع المعلومات مثل المصادر البشرية، والاختراق السيبراني، والتنصت الإلكتروني، والتصوير الجوي، والاستفادة من تبادل المعلومات مع أجهزة الاستخبارات الصديقة، وهو ما يتيح الحصول على معلومات تفصيلية حول نوايا الخصم، وحجم قواته، وتسليحها، وأماكن تمركزها، وتحركاتها.
أما الثالث فهو الحسم السريع بواسطة الدفاع الصلب على امتداد الحدود لمنع الخصم من احتلال أي جزء من الأراضي التي يسيطر عليها الاحتلال، ونقل الحرب إلى أرض العدو في أسرع وقت ممكن، وامتلاك سلاح جو قادر على تقديم المساعدة للقوات البرية من أول ساعة قتال، وشن هجوم استباقي في حال وجود خطر جسيم أو محتمل، والقضاء على التهديدات في أسرع وقت ممكن لمنع حشد قوات الاحتياط لوقت طويل.
لكن في يوم السابع من أكتوبر عام 2023 حين شنت الفصائل الفلسطينية بقيادة كتائب القسام هجوما قويا ومباغتا على منطقة غلاف غزة والبلدات الإسرائيلية، واستولت على أسلحة ورهائن من الجيش الإسرائيلي إضافة إلى سقوط قتلى وجرحى إسرائيليين، وتصوير الأسرى الإسرائيليين مذلولي الهامة أمام العالم أجمع، أيضا إعلان حزب الله اللبناني دخوله الحرب في اليوم التالي لطوفان الأقصى كجبهة إسناد لغزة، وبالتتابع هجمات الحوثيين في اليمن بالصواريخ والمسيرات على إسرائيل، فضلا عن اشتراك المقاومة في العراق في الهجوم على تل أبيب، كل ذلك أدى لاستنزاف إسرائيل في حرب طويلة منذ أكثر من عام لم تحقق فيها أي أهداف ويمكننا القول بتصدع جدار الأمن الإسرائيلي.
ولأول مرة يتم استهداف منزل نتنياهو شخصيا بل وغرفة نومه ما اضطره يهرع إلى الملاجئ كما هرع قبله ملايين المواطنين الإسرائيليين إلى الملاجئ على وقع صواريخ المقاومة التي انطلقت من عدة جبهات، أيضا قصف مطار بن جوريون ووزارة الدفاع الإسرائيلية ومقار عسكرية استراتيجية، يمكن الحكم بتآكل نظرية الردع الإسرائيلية.
وقد شكّلت عملية طوفان الأقصى وما تبعها من تعدد وتنوع الساحات عربيا إضافة إلى الهجوم الإيراني غير المسبوق على أهداف استراتيجية في إسرائيل شكل قوة خرق لجدار الأمن والردع الذي كان الاحتلال يضفي عليه هالة أُسطورية معتمدا على تفوقه الاستخباراتي والأمني والعسكري والتسليحي، لاسيما ونقل الحرب إلى الداخل الإسرائيلي لأول مرة وضرب المدن الإسرائيلية في حرب لا يعلم متى نهايتها.
كلفت الحرب إسرائيل فاتورة باهظة عسكريا واقتصاديا وتوقفت أنشطة مهمة كثيرة عن العمل إلى جانب خسائر الاحتلال من القتلى والمصابين والمعاقين والنازحين والراغبين في الهجرة، وهو ما تحاول التستر عليه ضمن عقيدة بن جوريون الأمنية.
في المقابل، سعت إسرائيل إلى ترميم جدار الردع، من خلال إيقاع قدر هائل من الدمار والضحايا في قطاع غزة ولبنان، وهو ما تأمل أن يوفر لها فرصة لتهجير جزء من سكان القطاع متى تسنح لها الفرصة لذلك، غير أن عملية الوعد الصادق الثانية من إيران عمّقت حالةَ التصدع الأمني الإسرائيلي، إلى جانب فشل الدخول البري جنوبي لبنان وتصاعد مستوى الخوف الذي يعيشه الإسرائيليون في المدن والمستوطنات، حيثُ باتت صفاراتُ الإنذار ومسلسل الهروب إلى الملاجئ والبحث عن أماكن آمنة للاختباء، بات مشهدًا يوميًّا في إسرائيل، فيما الصواريخ والطائرات المسيّرة تضرب العمق الإسرائيلي على نحو متصاعد.
منذ 6 ساعات