59 عامًا على رائعة «الحرام» بين «تشيخوف العرب» وفاتن حمامة

ألقاب كثيرة أُطلقت على الكاتب الكبير د. يوسف إدريس، وأهمها: لقب «تشيخوف العرب» للتشابه بين عالمه الإبداعى ونظيره الروسى «أنطون بافلوفيتش تشيخوف»، فكلاهما من رواد القصة القصيرة، كما أنهما طبيبان كشفا بقوة الإبداع عن مفارقات الحياة الساخرة وانحازا إلى المُهمشين والبسطاء، ووضح ذلك فى رائعة د. يوسف إدريس «الحرام» التى تحولت لفيلم سينمائى عُرض فى عام 1965 وكتب له السيناريو والحوار سعد الدين وهبة، وقامت ببطولته سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، النجمة المفضلة عند د. يوسف إدريس، وشاركها البطولة: عبد الله غيث وزكى رستم وحسن البارودى، وهو من أهم روائع المخرج هنرى بركات، ورُشح الفيلم لنيل جائزة «السعفة الذهبية بمهرجان كان» عام 1965، وتم تصنيفه فى المركز الخامس ضمن أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية .

فى عام 1968 طلب برنامج «الميكرفون مع» من د. يوسف إدريس اختيار النجمة المفضلة لديه ليحاورها إذاعياً فأختار استضافة فاتن حمامة، سألها عن أصعب الشخصيات التى جسدتها على الشاشة فقالت له: «بالطبع شخصية «عزيزة» بطلة «الحرام» فلأول مرة تتناول السينما فئة عمال التراحيل المُهمشة اجتماعياً، وما شدنى لشخصية «عزيزة» أنها تعرضت للقهر والظلم عندما أخطأت غصب عنها وتحملت وزر ذنب لم يكن لها يد فيه»!

ويروى لنا «تشيخوف العرب» ما شاهده أثناء تصوير الفيلم فى الفيوم فى مقال بعنوان «مخدر المدينة» فى كتابه الشهير «شاهد عصره» الذى يقول فيه: - «قضيت بعض أيام فى الفيوم مع فاتن حمامة والمخرج هنرى بركات والمنتج منير رفلة، ومجموعة من الفنانين والفنيين الذين كانوا يصورون فيلم «الحرام»، التجربة استغرقتنى تمامًا، فلقد اتبع بركات طريقة فريدة فى التصوير عندما جعل الفلاحين أنفسهم يمثلون دور «الترحيلة»، وكانت النتيجة مذهلة، فبعض الناس يعتقدون أن الفلاحين مثلًا أناس لا يمكن أن تكون بينهم وبين الفنون صلة، باعتبار أن الفنون المتطورة نبعت واشتهر بها المتعلِّمون من أهل المدن، لكننا وجدنا فى الفلاحين مادةً غنيةً لا يتصورها العقل، وباستطاعة اليد الماهرة أن تشكِّلها وتُخرج منها عملًا فنيًّا معجزًا.

اقرأ أيضًا | في ذكرى وفاته.. كيف بدأت قصة حب عمر الشريف وفاتن حمامة؟

ورغم أننى كان يجب أن أنصرف إلى التصوير والقصة وما كانت تقوم به المجموعة من عملٍ شاقٍّ رهيب، إلا أننى وجدت اهتمامى كله ينصرف إلى الفلاحين الذين أحضرهم المنتج منير رفلة ليقوموا بدور «الترحيلة»، أى القيام بالدور الخالد الوحيد الذى ظلُّوا يلعبونه آلاف السنين، واستغرقتنى تمامًا حياة هؤلاء الناس التى صادفتها بلا وعيٍ وأنا طفل، واليوم أشاهدها بكل وعيى وإدراكى وانتباهى، وخرجت من استغراقى فى تأمل حياة الناس بأننا نحيا فى القاهرة تحت تأثير مخدر قوى اسمه «المدينة»، بعماراتها وعرباتها وشوارعها الفسيحة ومتنزهاتها ومسارحها وسينماتها، والمواطنين الأنيقين النظيفين الذين يَحيون فيها، والذين يستنكفون أن يدخنوا السيجارة مثلًا إذا سقطت منهم على الأرض !

إن هذه المناظر التى تُطالعنا صباح مساء تُنسينا أحيانًا بل دائمًا أننا شعب من الفلاحين، وأن الوجه الحقيقى لهذا الشعب ليس هو الوجه القاهرى المطليُّ بالألوان والدوكو، والوجه الحقيقى هو ذلك الشاحب المليء بالحُفَر والندوب، الأصفر بالنقص فى التغذية، ذلك الذى يطالعنا إذا تحرَّكنا بضعة كيلومترات مبتعدين عن القاهرة، هناك نرى أنفسنا وبلادنا على حقيقتها، هناك لا خداع، هناك أدركت أننا برغم كل ما صُغناه وقمنا به من أعمالٍ مجيدة خلال ثورة 23 يوليو 1952 لم نستطع أن نغيِّر كثيرًا من صورة مجتمع القرية، فالفقر مازال يمسك بفئة عمال التراحيل ولا تزال له الغلبة ولا يزال هو القاعدة المُخيفة التى يقشعرُّ لها الجسد، الملابس مُهترئة، والوجوه ذابلة امتصَّت منها القوة القاهرة كل ماء الحياة ونضرتها، هناك وقفت سيدة أمريكية كانت تحضر التصوير وقالت والألم يلوى ملامحها:

«أقسم أنكم لكم الحق أن تفعلوا أى شىء فى سبيل أن تخلِّصوا هؤلاء الناس من هذه الحياة المرعبة كى يستطيع هؤلاء الناس أن يَحيوا الحدَّ الأدنى من الحياة الجديرة بالإنسان، الفقر لا يعيبكم فأنتم لم تصنعوه وورثتموه، وهو يعيب العالم المتحضِّر كله، يعيب القوى التى تقف ضدكم، ومنها للأسف بلادى التى تريد أن تمنع الطعام والملبس والمستقبل عن هؤلاء الناس. أرجوكم افعلوا أيَّ شيء وكلَّ شيء، أوقفوا هذا لا تجعلوه يستمر» !

لم أحسَّ أبدًا بالخجل، لأن هذه السيدة الأمريكية قد اطلعت على صورة حقيقية لحياة فئة مهمشة من فلاحينا، أحسست أن الصدق قد كسب لنا مُنصِفةً وداعيةً وصَديقة، أحسست أن خير ما نستطيع أن نفعله لشرح وجهة نظرنا للآخرين هو أن نُعرض للآخرين ما عاناه شعبنا تحت وطأة الاحتلال والاستعمار والاستغلال!

إن هؤلاء الناس الذين يكتبون فى الجرائد ويطلبون أن نُخفى ما يسمونه بالمناظر المؤذية عن عيون السياح والضيوف يملؤونى بالغيظ، فليس فى وجود الفقر ما يُخجل، فهو فقرٌ لم نصنعه وإنما ورثناه على رأى السيدة الأمريكية، وهو قضيتنا ومبرِّرنا العادل، وكثيرًا ما يُنسينا الوجه المشرق لمُدننا وعواصمنا ذلك الوجه الآخر، ذلك الذى تُخدِّرنا المدينة عن رؤيته وتُفقدنا القدرة على تذكُّره للعمل على تغييره.

د. يوسف إدريس

من كتاب «شاهد عصره»


المزيد من بوابة أخبار اليوم

منذ 9 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 6 ساعات