محمود الجارحي يكتب: السم في الكوب.. حين نطقت الجثامين وسكتت الأم

الشريك الأصلي في الرواية هو القتيلة، أم الأطفال الثلاثة، لن تتحدث ولن تقول كلمتها ولن تسمع منها رواية مختلفة أو «تصحيح»، المجني عليها بين يدي الله، أما الشاهد الآخر فهو مسرح الجريمة، مكان أصم لا ينطق أبدًا، لكنه يمنحك أدلةً صامتة: عينة من السم، آثار وبصماتٍ وبقايا طعام، يعطيك دون أن تسأله، ودون أن تقول له: «ماذا حدث؟»، أما المتهم، فهو وحده من نطق، قال كل شيء من وجهة نظره، رواها من طرفٍ واحد.

صباح السبت 25 أكتوبر الجاري، لم يكن صباحًا عاديًا داخل قسم الهرم، كان المقدم مصطفى الدكر رئيس المباحث، يناقش متهمًا في واقعة سرقة شقة سكنية، قبل أن يقطع حديثه بلاغٌ عاجل من شرطة النجدة: عثور الأهالي على جثتين لطفلين بمدخل عقار بمنطقة اللبيني – فيصل، وانبعاث رائحة كريهة من المكان.

لم يتردد المقدم لحظة، تحرك مع قوة من المباحث إلى العقار رقم 16 بشارع محمود حربي، المشهد كان قاسيًا: «طفل وطفلة يرتديان ملابسهما الكاملة، الأول جثة هامدة، والثانية تصارع أنفاسها الأخيرة»، نقلا إلى المستشفى، لكن الطفلة فارقت الحياة فور وصولها.

دقائق وتحولت المنطقة إلى ثكنة أمنية، اللواء محمد مجدي أبو شميلة، مساعد أول وزير الداخلية لقطاع أمن الجيزة، واللواء هاني شعراوي، نائب مدير الإدارة العامة للمباحث، والعميد عمرو حجازي، رئيس مباحث قطاع غرب الجيزة، جميعهم حضروا إلى الموقع، انتشرت فرق الفحص والطب الشرعي والأدلة الجنائية في كل زاوية، يبحثون عن خيط يقود للحقيقة.

وبعد نحو ساعتين، حضر محقق النيابة الى مكان الواقعة حيث عُثر على الجثامين، وروى له المقدم مصطفى تفاصيل البلاغ، قائلًا: «أحد الأهالي ويدعى إسلام – 32 عاما – لحّام، مقيم أمام العقار، أبلغ أنه أثناء خروجه للعمل عثر على الطفلين، فأبلغ فورًا».

الفحص المبدئي أكد خلو الجثتين من أي إصابات ظاهرية، والوفاة – وفق التقرير الأولي للطب الشرعي – نتيجة مادة سامة، وحدثت قبل نحو 12 ساعة من العثور على الجثامين.

وبدأت الأسئلة: من هما الطفلان؟ أين الأم؟ وهل هناك من نجا؟، أظهرت التحريات أنّ الطفلين شقيقان، ووالدهما يعمل فرد أمن خاص، استُدعي الأب وبصوتٍ متهدّج قال إن أطفاله الثلاثة كانوا بصحبة والدتهم منذ أيام، بعد خلافات أسرية جعلتها تغادر المنزل.

لكن أين هي الآن؟، تحركات فرق البحث لم تتوقف وبدأوا تتبع هاتف الأم وفحص الكاميرات المحيطة، الأم لم تغادر المنطقة وظهرت آخر مرة تدخل إلى مستشفى القصر العيني، جثة هامدة.

كاميرات المستشفى رصدت رجلًا يدخلها ويدّعي أنّه زوجها، يسلّم الجثة ويغادر في صمت. سأل المحقق من هو هذا الرجل؟، رد المقدم مصطفى الدكر قائلا: «التحريات كشفت أنّه صاحب محل لبيع الأدوية البيطرية، وبفحص كاميرات الطريق العام، تم تحديد تحركاته وضبطه، وبمواجهته اعترف المتهم بتفاصيل الجريمة قائلًا: هقول على كل حاجة، أنا قتلت الأم وأطفالها الثلاثة».

قالها بلا تردّد، وبدأ يسرد القصة بطريقته: «بينّي وبينها مشاكل كتير، قررت أخلّص منها. جبت سم بيطري وحطّيته في العصير. ماتت في ساعتها. خفت الناس تعرف، فودّيتها القصر العيني وقلت إنها مراتي، وسجّلت اسم غير اسمي وسِبتها ومشيت».

ولم يتوقف عند هذا الحد، «رجعت بعد كده وقررت أخلّص من العيال، حطّيت السم في العصير شربوا منه، إلا أصغر واحد رفض يشرب، خدت التوك توك ورميت جثته في الترعة». - وبالفعل، أرشد عن مكانه وتمكنت القوات من انتشال الجثمان -.

بين سطور التحريات واعترافات المتهم، تظهر مأساة إنسانية لا يقوى على تبريرها منطق، 3 أطفال لم يدركوا أنّ العصير الأخير كان نهاية اللعب والضحك، وأمٌّ رحلت دون أن تدافع عن نفسها أو تقول «أنا المظلومة»، الملف الآن أمام النيابة العامة، يضم اعترافات المتهم، وتحريات المباحث، وتقرير الطب الشرعي، وتفريغ الكاميرات، لكن تبقى الحقيقة الناقصة هي صوت القتيلة التي رحلت، وبقيت الحكاية تُروى من طرفٍ واحد.


المزيد من صحيفة الوطن المصرية

منذ 4 ساعات
منذ 7 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 4 ساعات