اقرأ في هذا الدليل: التقاعد مشروع استراتيجي طويل الأمد يحتاج إلى تخطيط واعٍ يبدأ مع أول راتب ويستمر لعقود لمواجهة التضخم والتقلبات.
جوهر التخطيط يتعلق بنمط الحياة الذي يريده الفرد بعد التوقف عن العمل وما يتطلبه من التزامات واستثمارات.
الخطأ الأكبر هو تأجيل الادخار بحجة أن التقاعد بعيد، ما يُفقد فرصة الفائدة المركبة التي تضاعف رأس المال بمرور الزمن.
القاعدة العامة للادخار 10 15% من الدخل، لكن النسبة المثلى تختلف وفق الأهداف الشخصية بين حياة متواضعة أو سنوات مليئة بالسفر والأنشطة.
التخطيط يتأثر بالسن والدخل والمهنة؛ فالشباب يملكون الوقت للمخاطرة، فيما يضطر المتأخرون إلى مضاعفة الادخار للحفاظ على مستوى حياتهم.
"التوازن أمر حاسم"، ذلك أن التركيز المفرط على الأمان يترك المدخرات عُرضة للتضخم، الذي يُضعف القدرة الشرائية تدريجياً. كما أن التركيز المفرط على النمو يعرّضك لخطر البيع في أوقات الركود.
خاص CNBC عربية- محمد خالد
في رواية "أليس في بلاد العجائب" تسأل أليس القط عن الطريق الذي يجب أن تسلكه، فيجيبها بأنه لا يهم أي طريق طالما لا تعرف إلى أين تريد الذهاب؛ فبالمشي ستصل إلى مكان ما.
استخدم مارك سينغر، هذا الموقف الدرامي، في كتابه "المشهد المتغير للتقاعد" الصادر في أبريل/ نيسان 2011 لتشبيه رحلة الكثيرين عندما يتعلق الأمر بالتقاعد.
يعتبر سينغر أن أكبر خطأ يرتكبه معظم الناس هو أنهم لا يخططون لهذه المرحلة من عمرهم، فيبدو وكأنهم يسلكون نفس الطريق الذي سلكته "أليس"، حيث لا تعرف أين تذهب، وبالتالي قد لا يكون الوصول إلى المكان الذي تريده.
بالنسبة للكثيرين يظل "التقاعد" محطة غامضة في نهاية رحلة العمل، بيد أنه في حقيقة الأمر يتعين أن يكون مشروعاً استراتيجياً طويل الأمد يحتاج إلى تخطيط واعٍ يبدأ ربما من أول راتب، فمع تغيّر أنماط الحياة وارتفاع متوسط الأعمار وتزايد الضغوط الاقتصادية، بات من الصعب الاعتماد فقط على معاش حكومي أو مدخرات "عشوائية" لتأمين سنوات ما بعد العمل.
يقوم جوهر التخطيط للتقاعد على سؤال أعمق من مجرد حجم المال الذي يتعين ادخاره واستثماره، وهو "أي نمط حياة يريده الفرد عندما يتوقف عن العمل؟"، ومن هنا يتحدد حجم الالتزامات المطلوبة، والاستراتيجيات المناسبة، والخيارات الاستثمارية التي تحافظ على قيمة الأموال لعقود طويلة في مواجهة التضخم والتقلبات، مع الأخذ في الاعتبار الفروقات الحاسمة بين مرحلتي العمل والتقاعد، ففي الثانية يتعين ملء اليوم بأكمله، وما يختاره الفرد لذلك هو ما سيحدد التكلفة.
ويعد التخطيط للتقاعد انعكاساً لخيارات شخصية: هل تريد حياة متواضعة تتسم بالاستقرار والطمأنينة؟ أم تتطلع إلى سنوات حافلة بالسفر والأنشطة المكلفة؟ فلكل مسار متطلباته، وبالتالي فإن نسب الادخار مؤشرات تُكيَّف وفقاً للأهداف الفردية والدخل المتاح، والقدرة على خلق مزيج متوازن من الادخار والاستثمار، يمنح صاحبه "راحة البال" المنشودة، بأن حياته بعد التقاعد لن تكون مرهونة بالمفاجآت أو الأزمات، إنما هي خطة مدروسة صمدت أمام اختبارات الزمن.
ولعل أكبر خطأ يقع فيه كثيرون هو تأجيل البدء في التخطيط والاستثمار لتلك المرحلة، بحجة أن الدخل لا يكفي أو أن التقاعد ما زال بعيداً، ليفوتوا بذلك فرصة الفائدة المركبة، التي تمنح القوة الحقيقية لرأس المال مع مرور الزمن، والتي تعمل فقط لصالح من يبدأ مبكراً. في المقابل، يظل البدء المتأخر ممكناً، لكنه يحتاج لجهود مضاعفة وادخار أكبر لتعويض الوقت المفقود.
في هذا الدليل، يستعرض مجموعة من مديري الثروات من شركات أميركية، في رؤى متفرقة شاركوها مع CNBC عربية، أبرز استراتيجيات التخطيط للتقاعد، وما يجب اتباعه من أجل بناء "شبكة أمان" تضمن دخلاً مستمراً يواكب احتياجات الأفراد.
متى تبدأ؟ وكيف؟
في حديثه مع CNBC عربية، يُجيب المخطط المالي معتمد لدى Raymond James Barbican، كوان تايت، عن عددٍ من الأسئلة الأساسية المرتبطة بالتخطيط للتقاعد، بما في ذلك السن المناسبة لبدء هذه العملية، وحجم المدخرات الشهرية المطلوبة نسبة إلى الدخل، ومزيج الاستثمارات التي يُنصح بها للحفاظ على قيمة الأموال المدخرة للتقاعد.
فيما يخص سؤال "متى تبدأ؟"، يرى أنه كلما كان أبكر كان أفضل، إذ لا شيء يتفوّق على عقود من أثر الفائدة المركبة. فمن يبدأ في منتصف العشرينات قد يصل إلى نفس صندوق التقاعد المطلوب بجزء بسيط من الادخار الشهري الذي يحتاجه من ينتظر حتى منتصف الأربعينات.
التخطيط المتأخر يظل مجدياً، لكن التنازلات تختلف.. بينما المبتدئون مبكراً على الجانب الآخر يمتلكون عامل الوقت كميزة. أما المتأخرون فغالباً ما يكون لديهم دخل أعلى يسمح بمساهمات أكبر، لكنهم مضطرون لادخار نسبة أكبر بكثير لتعويض الوقت الضائع، وهو أمر لا يمكن استرجاعه.
المدّخرون الأصغر سناً يمكنهم عادةً تجاوز تقلبات السوق مع بقاء عقود أمامهم.. أما من يقتربون من التقاعد فيجب أن يركزوا أكثر على الاستقرار لكن ليس على حساب النمو
كوان تايت من Raymond James Barbican
ويضيف: "الظروف تحدد الخطة.. المدّخرون الأصغر سناً يمكنهم عادةً تجاوز تقلبات السوق مع بقاء عقود أمامهم.. أما من يقتربون من التقاعد فيجب أن يركزوا أكثر على الاستقرار، لكن ليس على حساب النمو"، مشيراً إلى أنه "حتى بعد التقاعد ستظل بحاجة إلى التفوق على التضخم لبقية حياتك". ويلفت إلى أن "الدخل الأعلى يجعل المساهمات الأكبر ممكنة، لكن المبدأ يظل نفسه: يجب أن يتماشى مستوى الادخار مع أهداف نمط الحياة.
:
كم يجب أن تدخر؟
قواعد عامة مثل 10 15% من الدخل مفيدة كنقطة بداية، لكن الاختبار الحقيقي هو ما إذا كان معدل ادخارك يدعم التقاعد الذي تريده.
أسلوب حياة متواضع قد يتطلب أقل، بينما خطة أكثر طموحًا تحتاج إلى أكثر بكثير.
بالنسبة لكثير من المهنيين، العمل روتين غير مكلف نسبياً، بعض السفر وقهوة هنا وهناك، وعدة وجبات غداء، لكن التقاعد يغيّر ذلك، إذ يجب أن تملأ اليوم بأكمله، وما تختاره لملئه هو ما سيحدد التكلفة.
الخطر الأكبر ليس في الادخار القليل لسنة واحدة، بل في الادخار القليل لفترة طويلة جداً.
وبالنسبة لذوي الدخل المحدود، فالعادة أهم من الأرقام في البداية، إذ أنه حتى المساهمات الصغيرة والمنتظمة تبني الانضباط. ومع الوقت، فإن زيادة المساهمات بمقادير صغيرة تُحدث فرقاً ملموساً. كما أن استخدام خطط مكان العمل أو الحوافز الحكومية أو الحسابات ذات المزايا الضريبية يساعد في جعل المدخرات أكثر فاعلية.
وإلى ذلك، يتحدث تايت عن أوجه الاستثمار التي يُنصح بها، لافتاً إلى أن "التوازن أمر حاسم"، ذلك أن التركيز المفرط على الأمان يترك المدخرات عُرضة للتضخم، الذي يُضعف القدرة الشرائية تدريجياً. كما أن التركيز المفرط على النمو يعرّضك لخطر البيع في أوقات الركود، مردفاً: "التقلبات مؤقتة.. الخطر الحقيقي هو الفشل في تأمين الدخل الذي تحتاجه".
في السنوات الأولى، يميل التوجه نحو أصول النمو ليكون منطقياً لأن الوقت يسمح بالتعافي من التراجعات. ومع اقتراب التقاعد، يجب أن يتحول التوازن تدريجياً نحو الاستقرار والسيولة، مع الحفاظ على قدر كافٍ من النمو لمجاراة التضخم.
وبمجرد الوصول إلى التقاعد، حين يصبح الدخل معتمداً بشكل مباشر على الاستثمارات، من المفيد الاحتفاظ باحتياطي نقدي أو شبه نقدي يغطي عدة سنوات من الإنفاق المتوقع. ذلك الاحتياطي يتيح لك الاستمرار في السحب دون الحاجة إلى بيع استثمارات طويلة الأجل في توقيت خاطئ، مما يمنحها فرصة للتعافي، وفق تايت.
ويختتم رؤيته التي شاركها مع CNBC عربية، بقوله: "إن التخطيط للتقاعد ليس مطاردةً لأعلى العوائد، بل هو بناء الثقة بأن دخلك سيكون متاحاً دائماً، عاماً بعد عام، طالما أنك بحاجة إليه. وهذه الثقة تأتي من مواءمة الادخار والاستثمارات مع أهدافك، لا من اتباع أحدث توجهات السوق".
الأهداف الشخصية.. ونسبة الـ 15% من الدخل
المخطط المالي في شركة Oak Road Wealth Management بالولايات المتحدة، أندرو ماتز، يقول لـ CNBC عربية إن التخطيط للتقاعد "يعتمد على أهدافك الشخصية"؛ ذلك أن الاحتياجات الأكبر عند التقاعد، مثل خطط السفر الكبيرة، تتطلب معدل ادخار أعلى أثناء فترة العمل، ومن ثم يُنصح بمقارنة نفقاتك الحالية ونفقاتك المرجوة بعد التقاعد لتعرف مقدار ما قد تحتاجه سنوياً.. بينما "يمكن أن تساعدك حاسبة التقاعد عبر الإنترنت على تحديد احتياجاتك".
ويضيف: "القاعدة العامة هي ادخار 15% من دخلك للتقاعد"، منبهاً إلى أن "هذه الاستراتيجية مبنية على دخلك الحالي، لكنها لا تأخذ في الاعتبار أهداف كل شخص الفريدة للتقاعد. ومع ذلك، تظل نقطة انطلاق جيدة".
ووفق ماتز، فكلما بدأت في بناء عادات الادخار مبكراً، كان ذلك أفضل، باعتبار أن "البدء المبكر يمنحك وقتاً طويلاً للاستفادة من الفائدة المركبة". ويوضح أن "أفضل طريقة لتطبيق هذه العادة هي وضع خطة ادخار نظامية بحيث لا تحتاج للتفكير في وجهة أموالك كل شهر".
بدء الادخار المبكر للتقاعد يمنحك وقتاً طويلاً للاستفادة من الفائدة المركبة
أندرو ماتز من Oak Road Wealth Management
ويُنصح بالمشاركة في خطة التقاعد التي يقدمها صاحب العمل -إن وجدت-لجعل الأموال تُخصم تلقائياً من راتبك.
ويستطرد: "حتى لو كان دخلك محدوداً، فإن استراتيجية الادخار الآلي تسمح لأموالك بالزيادة على مدار حياتك".
ويشير إلى التهديد الأكبر الذي يواجه المتقاعدين الجدد، وهو التضخم:
من أكبر التهديدات التي تواجه المتقاعدين الجدد هو التضخم؛ إذ يمتد لديهم فترة زمنية تتراوح بين 20 و30 عاماً يجب أن تحافظ خلالها أموالهم على قيمتها مقابل ارتفاع الأسعار.
لهذا السبب، المحفظة الاستثمارية المحافظة جداً قد تكون خطرة بنفس درجة المحفظة العدوانية جداً.
قد تكون محفظة بنسبة 60% أسهم و40% سندات نقطة انطلاق جيدة للمتقاعد الجديد لضمان استمرار أمواله طوال فترة التقاعد الطويلة.
يمكن تعديل نسبة الأسهم إلى الأسفل وفقاً لتحمّل المخاطر لديك ومع تقدمك في التقاعد.
عوامل السن والدخل والوظيفة
من جانبها، تشدد مستشار الثروات في شركة Magnus Financial Group شاروين هايوت (المصنفة ضمن أفضل مستشارات الثروات على مستوى الولايات المتحدة وفق فوربس في العام 2022) على أنه يتعين أن تبدأ التخطيط للتقاعد في أقرب وقت ممكن؛ فالنمو المركب يجعل المساهمات المتواضعة ذات قوة هائلة إذا بدأت مبكراً.
وتضرب هايوت مثالاً -لدى حديثها لـ CNBC عربية- بشاب يبلغ 25 عاماً ويدخر فقط 200 دولار شهرياً بعائد سنوي قدره 7%، سيكون لديه أكثر من 1.3 مليون دولار عند بلوغه 65 عاماً. أما إذا انتظر حتى سن 35 ليبدأ نفس خطة الادخار، فسيكون لديه حوالي 610 آلاف دولار فقط، رغم أنه ساهم لعشر سنوات أقل فقط.
تبعاً لذلك، فإن الزمن أكثر قيمة من حجم المبلغ المستثمر. فالبدء المبكر بمساهمات أصغر غالبًا ما يتفوق على البدء المتأخر بمساهمات أكبر. وكل عام من التأخير يتطلب أموالًا إضافية كبيرة لتحقيق نفس نتيجة التقاعد.
يمكن للشباب أن يكونوا أكثر جرأة في تخصيص استثماراتهم، في حين يضطر الأكبر سنًا إلى محاولة التعويض إذا لم يبدأوا مبكراً
شاروين هايوت من Magnus Financial Group
ورداً على سؤال: "هل يختلف التخطيط للتقاعد باختلاف العمر أو الدخل أو المهنة؟"، تقول إن التخطيط للتقاعد يختلف من شخص لآخر.
الدخل والمهنة لهما تأثير مهم.
أصحاب الدخول المرتفعة يحتاجون إلى ادخار مبالغ مطلقة أكبر للحفاظ على مستوى حياتهم.
بينما أولئك الذين لديهم معاشات أو يعملون في القطاع الحكومي قد يحتاجون إلى استراتيجيات مختلفة عن العاملين في القطاع الخاص أو المستقلين.
كما يمكن للشباب أن يكونوا أكثر جرأة في تخصيص استثماراتهم، في حين يضطر الأكبر سنًا إلى محاولة التعويض إذا لم يبدأوا مبكراً.
هذه الاختلافات توضح لماذا غالباً ما تكون النصائح الجاهزة حول التقاعد غير كافية. فأكثر خطط التقاعد فعالية هي تلك المصممة وفقًا لظروف كل فرد، بحيث تستفيد من المزايا المتاحة وتتعامل مع التحديات الخاصة التي يواجهها.
:
النصيحة الأهم
"أهم نصيحة يمكنني تقديمها لأي شخص بخصوص التخطيط للتقاعد هي البدء فوراً".. هكذا تستهل المدربة المالية ومؤسسة Financially Thriving الأميركية، والي ميلر، رؤيتها الموجزة التي شاركتها مع CNBC عربية. وتقول إنه "لا يوجد وقت مبكر جداً للبدء في الادخار والاستثمار للتقاعد.. لكن قد يصبح متأخراً جداً إذا أجلت الأمر.. كلما كان لديك وقت أطول قبل التقاعد، قلت الحاجة لمساهمة كبيرة لبناء مستقبل آمن".
وتتبنى ميلر وجهة النظر القائلة بأن "التقاعد ليس متعلقاً بالوصول إلى سن معين"، وتفسر ذلك قائلة: "إنه يتعلق بالوصول إلى رقم معين من الأصول.. بمجرد أن تمتلك ما يكفي لتغطية نفقاتك، يمكنك التقاعد، وإذا كنت ترغب في التقاعد قبل معظم الناس، فعليك الادخار والاستثمار أكثر مما يفعل أقرانك"، وفق رؤيتها.
وتستطرد: "بشكل عام، كلما كنت أصغر سناً، يمكنك تحمل المزيد من المخاطر لأن لديك وقتاً أطول لتجاوز تقلبات السوق.. ومع الاقتراب من التقاعد، تنتقل من مرحلة تراكم الثروة إلى مرحلة الحفاظ على الثروة، والتي عادةً ما تعني الميل نحو استثمارات أكثر محافظة".
التقاعد ليس متعلقاً بالوصول إلى سن معين.. "إنه يتعلق بالوصول إلى رقم معين من الأصول"
والي ميلر من Financially Thriving
وفي سياق متصل، تتطرق بالحديث عن أصحاب الدخل المحدود، وكيفية التخطيط للتقاعد، قائلة:
"بالنسبة لمن لديهم دخل محدود، فإن البدء بخطوات صغيرة هو المفتاح".
حتى ادخار 1 5% من الدخل يمكن أن يحدث فرقاً كبيراً مع مرور الوقت.
استراتيجية مفيدة هي زيادة نسبة الادخار بمعدل 1% كل عام.
مع ارتفاع الرواتب، قد يكون من المغري زيادة الإنفاق، لكن ما يعرف بـ"تضخم نمط الحياة" يمكن أن يقوض حتى أفضل النوايا.
أفضل نهج هو تنمية الادخار والاستثمارات بالتوازي مع الإنفاق.
منذ 4 ساعات