فى عمق الجراح التى لا ترى وفى صمت البيوت التى أطفأت فيها ضحكات الأطفال، تنام مأساة لا تكتب عنها الأخبار كثيرًا، ولا يتصدر وجعها عناوين الشاشات.. مأساة يعيشها ملايين الآباء فى مصر، دون صوت دون حق ودون حضن.. مأساة سببها قانون الأسرة الحالى الذى تحول من نصوص يفترض بها حماية كيان الأسرة إلى سيف مسلط على رقبة الأبوة.. قانون جائر.. يسقط معنى الأبوة.
بالأمس ـ رأيت مشهدًا لا يشبه إلا وجع الأرض حين تبكى.. فيديو يقطر ألمًا يحطم النفس ويمزق القلب.. رجل فى مطلع الأربعين ـ يقف أمام أستار بيت الله الحرام، يغسل وجهه بدموع من نار، بكائه لا يشبه بكاء العابرين.. بل هى صرخة مكتومة لرجل أنهكته القوانين الظالمة، وأوجعته الحياة البائسة.. كان يبكى بحرقة لا تحتمل ـ ويدعو على زوجة لم تكتف برحيله من حياتها، بل نزعت عنه حقه فى رؤية ابنه.. ثلاث سنوات مرت، وقانون الأسرة الذى يفترض أن يكون عدلًا، كان جلادا.. وزاد الطعنة عمقًا أن الحاضنة هى أم تلك الزوجة ـ فصار للأبن أبوان لا يعرف لهما وجها، وقلب لا يدرى من الأقرب إليه.. وفى خضم بكائه الموجع، وجه كلماته المبللة بالألم إلى ابنه قائلًا: لا تغضب منى يا بنى.. لقد حاولت مرارًا وتكرارًا.. سعيت بكل قوتى، طرقت كل الأبواب لكنهم لم يسمحوا لى حتى بلقائك، ولا لحظة واحدة.. واختتم كلامه باكيًا وهو يرفع يديه إلى السماء ـ يقول: يا رب ـ جئت إليك لا أشكو إلا إليك.. جئتك بقلبى المكسور، أطرق بابك لأن عدلك لا يغلق، ولا يؤجل، ولا يخيب.
إلى ولاه أمر هذا المجتمع الجريح.. انتبهوا قانون الأسرة أهم من قانون الإيجار القديم.. لأنه ببساطة قانون الأسرة يؤسس لمستقبل أمة، أو يهدمها فالقانون الحالى لا يحفظ توازن الأسرة بل يكرس للانتقام باسم العدالة، ويصوغ الطلاق على هيئة حرب لا نهاية لها.. والطرف الوحيد الذى يدفع الثمن الحقيقى ليست الزوجة كما يتخيلون، الذى يقع عليه الظلم هو الزوج ( والد الأطفال ) والذى يدفع الثمن أولئك الصغار الذين ينزعون من آبائهم، فهذا القانون الظالم تعامل مع الزوج ( الأب ) وكأنه ليس أكثر من ممول مالى ومتهم محتمل.
إلى ولاه الأمر ـ كيف يحاسب الأب المكلوم.. حين يمتنع عن دفع ما يشبه الإتاوة المفروضة عليه، دون أن يشعره القانون بأنه المسؤول الحقيقى عن هذه الطفولة التى تحمل اسمه ؟.. كيف يتحول الأب إلى ممول فقط، تسحب منه حقوقه الإنسانية ويعاقب فقط لأنه عاجز عن مواكبة الشروط المالية التى تزداد يومًا بعد يوم وكأن الأبوة سلعة تشترى وتباع ؟.. هذا القانون لا يمت إلى الرحمة بصلة هو عار على الإنسانية ـ وعار على المجتمع، ولا يمت لشرع الله من قريب أو بعيد.
وهناك العديد من المآسى المبكية والوقائع الدامية
* أب فى الأربعين من عمره ـ يعمل مدرسًا ـ تم الطلاق بينه وبين زوجته منذ ثلاث سنوات، لم ير ابنته الوحيدة، وكل محاولاته فى الرؤية داخل مركز الشباب باءت بالفشل، فالأم تتعمد تغييب البنت أو إثارة المشاكل البنت الآن تنادى زوج أمها بكلمة ( بابا ) بينما أبوها يكتفى بصورة قديمة على هاتفه المحمول، يقبلها كل ليلة قبل النوم.
* وطفلة لم تتجاوز العاشرة، تعيش فى منزل والدتها مع زوج جديد فى إحدى المرات، تعرضت للضرب من زوج الأم، وعندما حاول الأب تقديم شكوى لحمايتها، قوبل بالرفض وعدم الصفة لأنه فى القانون ( مجرد زائر لا وصى ولا ولى ) كيف لعقل أن يتقبل أن يحرم الأب من دوره كحام ومسؤول.
* شاب فى العشرينيات ـ يكتب منشورا مؤلمًا مشحون بالمشاعر، ومؤلم الصدى.. فقبل أيام من إنهاء حياته، قال فى منشوره: نشأت وأنا أسأل أمى فى كل عيد أب: أين أبى ؟ وكان ردها الدائم: إنه رجل سيئ، تركنا ومضى.. كبرت وأنا أحمل كراهية لرجل لم أعرفه.. لم آره لم أتلمسه لم أشعر بأنفاسه.. حتى اكتشفت الحقيقة متأخرًا جدًا أبى لم يختر البعد عني بل فرض عليه ـ فكان يأتى كل أسبوع ليحاول رؤيتى، وكانت أمى تمنعه، وتغلق الأبواب دونه ـ اليوم ـ وبعد سنوات.. من الغضب والشتات ـ أتصلت به وقلت له: أنا آسف يا أبى لم أكن أعلم ـ فرد على بصوت مكسور: كنت أنتظر هذه الكلمة منذ خمسة عشر عامًا.
هل يعلم القائمون على الأمر أنه بسبب هذا القانون الظالم.. هناك آلاف الأزواج يعيشون تحت سقف واحد مع زوجاتهم كالأموات ؟
لا حديث، لا مودة، لا احترام.. فقط أجساد تشترك فى مكان، لكن الأرواح مفصولة بجدران الجفاء والخوف.. الزوج لا يطلق، لأنه يعلم أن الطلاق معناه الحرمان من أطفاله.. يعلم أنه إن اتخذ القرار، لن يرى أبناءه إلا فى مركز رؤية، وربما فى وجود أفراد أمن، أو لا يراهم إطلاقا ـ ورغم أن الحياة بينهما أصبحت مستحيلة.. نعم مستحيلة ـ إلا أنه يختار الاستمرار فى الظل، فى الهامش فى حياة خالية من أى طعم.. فقط ليبقى قريبًا من صورة أبنائه.. لكن ما لا يدركه أحد، أن هذه الحياة الهامشية تخلق أبناء مشوهين نفسيًا وعقليا وأخلاقيا بلا تربية، بلا حنان، بلا قدوة.. والنتيجة ـ جيل مكسور مضطرب مشوه.. أطفال ضائعون يتعاطون ( الشابو والأستروكس ) فى سن المراهقة، وبعضهم فى الابتدائية.. كيف لا ؟.. والأب مغيب ومجرد من سلطته مقهور.. والأم مشغولة إما فى الانتقام، أو فى لعب أدوار ليست لها الأسرة انقلبت.. والضحية دائمًا هم الأطفال ـ لقد وصلنا للحظة الانهيار وعلينا أن نلحق ما تبقى.. فلم يعد فى الإمكان الترف فى الانتظار أو التأجيل علينا أن نلحق ما تبقى من فتات الأسرة التى انهارت.. ما تبقى ليس كثيرًا، ولكنه كاف لأن نبنى عليه لو امتلكنا الشجاعة والنية، فنحن الآن على أعتاب تمزق بلا عودة ـ نعم ـ نقف على حافة هاوية لن تسقط أسرة أو طفلًا فقط، بل تسقط أمة بأكملها فليعلم ولاة الأمر ـ أن الخطر الحقيقى ليس من الخارج، بل من الداخل.. من البيوت التى لم تعد بيوتًا، من أطفال بلا آباء، من رجال بلا دور، من نساء يربين الأحقاد بدلًا من الأطفال.
الفرق بين جيل الأمس واليوم.. رحم الله أمهاتنا اللاتى تربين على احترام الزوج، لا من ضعف، بل من حكمة.. كن يعرفن أن احترام الزوج ليس عبودية، بل حفظ للأسرة، وصون للمستقبل.. كانت الأم تصنع من أبنائها رجالًا يعرفون قيمة الأب، ويقفون أمامه بأدب وخشوع أما اليوم ـ إلا من رحم ربى فالكثير من السيدات لا يرون فى الزواج إلا ساحة صراع.. هدفهن هدم الزوج، كسره تدميره نفسيًا وماديًا، بمطالب لا تنتهى، وشكوى لا تنقطع، وحروب لا تتوقف.. لقد تغير كل شيء.. حتى الأمومة تغيرت.. فلا وجه للمقارنة بين الزوجة قديما والزوجة الآن.. فالزوجة ( أم الأطفال ) فى الماضى لم تكن كزوجة اليوم ـ فالمرأة قديما كانت تبنى بيتها بيدها وتخشى على أسرتها من التفكك لم تعد موجودة إلا نادرًا.. الزوجة اليوم ـ إلا من رحم ربى هى ابنة عصر مشوه،
تربت على فكرة ( الندية الناقصة )
.. ندية لا تستند إلى وعى، بل إلى رفض أعمى، وانتقام دفين.. ندية هزيلة لا تعرف من المساواة إلا كسر الرجل، وهدم البيت، وسحب الأبناء إلى الهاوية.. والنتيجة جيل بلا هوية بلا هدف بلا دليل.. النتيجة ظاهرة فى كل شارع ومدرسة وساحة عامة جيل لا يعرف معنى الأبوة، ولا معنى القيادة، ولا الانتماء، ولا المسؤولية.. جيل تربى على الوجع، فينجب وجعا جديدًا.. فقانون الأسرة الحالى ليس فقط ظالمًا بل قاتلًا.. قاتل للرحمة قاتل للمودة ـ قاتل للهوية.
إلى ولاة الأمر.. فمن أجل أبوة إنسانية، وعدالة متوازنة ـ نحتاج فورًا إلى قانون جديد للأسرة، قانون عادل لا ينصف طرفًا على حساب آخر، بل يحقق التوازن الحقيقي قانون يضمن إستضافة الأب لأطفاله فى منزله لفترات إنسانية كريمة، وليس مجرد ثلاث ساعات فى الأسبوع.. قانون يحفظ كرامة الأب، فلا يكون متهمًا، أو خصمًا دائمًا، بل شريك فى تربية أبنائه.. قانون يمنع التحريض على الكراهية بين الأبناء وآبائهم.. قانون يلزم بتقارير اجتماعية حقيقية حول مصلحة الطفل، لا أن تسجن الطفولة داخل عناد الكبار.
إلى كل ولاة الأمر.. أنقذوا ما تبقى قبل أن يصبح الركام هو الأصل، فما نطلبه ليس امتيازا للرجل، بل انقاذا للأسرة.. فما نصرخ به ليس غضبًا من طلاق، بل من عدالة عمياء تفكك ما تبقى من هذا الوطن فلنعد للأبوة معناها، وللعدالة توازنها، وللأسرة كرامتها، قبل أن يصبح الركام هو الأصل، والدمار هو العرف، والانفصال هو القاعدة
حفاظا على هوية هذا المجتمع.. أتمنى أن تكون هناك صحوة
فأى ظلم هذا ؟ ـ أى قانون هذا الذى ينتزع الأبوة من جذورها، ويجعل من الحنان جريمة، ومن اللقاء حلمًا مستحيلًا ؟
لماذا يعامل الآباء كأنهم فائض شعور؟
لماذا يتحول الحنين إلى تهمة، والاشتياق إلى معركة قانونية خاسرة منذ البداية ؟
أمام هذه المآسى يبقى صوت الإنسانية هو الأمل الأخير.. ومن هنا ـ أتوجه برجاء خالص إلى السيد رئيس الجمهورية ـ الذى نحتمى بضميره الإنسانى حين تضيق علينا الأرض.
أن يلتفت إلى هؤلاء الآباء المكلومين، وأن تعاد صياغة قوانين الأسرة بعين الرحمة لا النص، وبروح العدالة لا أوراق المحكمة.. فالأبوة ليست بندًا يضاف أو يحذف،
بل هى حق فطرى مقدس،
لا يجب أن يغتال ببطء على يد صمت المجتمع أو ظلم القوانين.
وللحديث بقية.. إن شاء الله تعالي
samyeltarawy@gmail.com
منذ 9 ساعات