لم تعرف خديجة، ذات الـ25 عامًا، وطنًا غير ليبيا، حيث نشأت ودرست في مدينة أوباري، التي تبعد حوالي 1180 كيلومترًا عن العاصمة طرابلس، وفيها، تشبعت بالثقافة الليبية واكتسبت هويتها.
انخرطت خديجة في العمل المجتمعي لخدمة مدينتها، في بلد لا تحمل فيه رقمًا وطنيًا ولا جواز سفر، إذ أنها ضمن شريحة "عديمي الجنسية"، التي لم تستطع السلطات الليبية تسوية أوضاعها حتى الآن.
تقول خديجة لبي بي سي بحسرة: "لقد حظيت بعدة فرص للسفر خارج البلاد كوني ناشطة مدنية من الجنوب، وجاءتني فرصة للتدريب مع منظمات دولية في أوروبا، لكنها ضاعت لعدم امتلاكي جواز سفر، إلى جانب غيرها من الفرص الضائعة."
Play video, "عديمو الجنسية في ليبيا: ما أصولهم وما القصة وراءهم؟", المدة 5,10
العائدون يُطلق على فئة المحرومين من الجنسية الليبية "العائدون" أو "أصحاب الأرقام الإدارية أو المؤقتة".
تُعرف اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1954 الخاصة بـ "عديمي الجنسية" الشخص عديم الجنسية بأنه "الشخص الذي لا تعدّه أية دولة مواطنًا فيها بمقتضى تشريعاتها."
يقطن معظم "العائدون" في ليبيا في المناطق الحدودية الجنوبية والشرقية والغربية من ليبيا، ولا توجد إحصائية رسمية من الدولة عن تعدداهم، بينما تقدر منظمات حقوقية عددهم بعشرات الآلاف بل أن هناك تقديرات تصل إلى 200 ألف.
وينقسم عديمو الجنسية في ليبيا إلى ثلاثة فئات
الفئة الأولى: من لم يشملهم التعداد السكاني الليبي لعامي 1954 و1964 - وتشمل عددًا من أبناء القبائل العربية والطوارق والتبو - بسبب عدم قدرة لجان الحصر على الوصول إلى المناطق النائية الحدودية.
الفئة الثانية: العائدون من المهجر، الذين انتشروا في غرب وشرق وجنوب البلاد بعد أن غادروا ليبيا في فترة الاستعمار لأسباب مختلفة، ثم عادوا ولم يدرجوا في سجلات المواطنين.
الفئة الثالثة: مواليد "أوزو"، وهو إقليم حدودي كان متنازعًا عليه بين ليبيا وتشاد، وتقطنه قبائل التبو التي تسكن جنوب ليبيا وعلى المناطق الحدودية بين تشاد والنيجر والسودان، قبل أن تحسم محكمة العدل الدولية النزاع لصالح تشاد، وعلى إثر ذلك صدر تعميم من الدولة الليبية في عام 1996 يقضي بإلغاء جميع سجلات سكان الإقليم ومعاملتهم معاملة الأجانب، وهو ما شمل الآلاف غير المعترف بهم كليبيين اليوم.
لا للتمييز وعلى الرغم من أن مشكلة عديمي الجنسية في ليبيا مستمرة منذ عقود، إلا أنها عادت للواجهة تزامنا مع سعي السلطات الليبية لاعتماد دستور جديد للبلاد بعد الإطاحة بالعقيد الراحل معمر القذافي.
ففي عام 2014، عندما بدأت الدولة الليبية العمل بالرقم الوطني لحاملي الجنسية، وهو رقم مرجعي يُصرف لكل مواطن ويُستخدم للوصول إلى بياناته الأساسية في قاعدة البيانات الوطنية، وجد عديمو الجنسية أنفسهم بلا حقوق. بناءً على ذلك، نظمت مجموعة من قبائل الطوارق في جنوب غرب ليبيا اعتصامًا وأغلقوا حقل الشرارة النفطي الواقع في مناطقهم كوسيلة للضغط على الحكومة. واستجابت الدولة الليبية لمطالبهم ومنحت عديمي الجنسية "الرقم الإداري المؤقت"، ذا الصلاحيات المحدودة، لتمكينهم من إتمام إجراءاتهم الإدارية والمالية. لكن القرار لم يكن واضحًا بما فيه الكفاية، ولم يُحدد بشكل مفصل الإجراءات الإدارية التي يحق لعديمي الجنسية الوصول إليها عن طريق ذلك الرقم.
خديجة قديدي، إحدى مؤسسي حراك "لا للتمييز"، تحدثت لبي بي سي قائلة: "نحن نتعرض للعنصرية من الجهات الحكومية التي تفرض علينا شروطًا دون أي سند قانوني، وبشكل فردي."
وتشير قديدي إلى أن الحراك، الذي انطلق في عام 2020 بـ 50 ناشطًا من مدينة أوباري، وشمل لاحقًا عدة مدن ليبية، بدأ بعد ما حدث لطالبة من عديمي الجنسية تدرس في المعهد الصحي في أوباري جنوب ليبيا. إذ سجلت الطالبة للالتحاق بالمعهد، وأجرت الامتحان وتم قبولها، لكن مدير المعهد اشترط عليها "توقيع تعهد بعدم العمل بعد تخرجها بسبب عدم حملها للجنسية الليبية". على إثر ذلك، انطلق الحراك وخرجت الاحتجاجات المطالبة بعدم التمييز وتطبيق العدالة، إلى أن تم الاعتذار للطالبة واستعادة حقها.
وتضيف قديدي: "مطالبنا تتضمن استكمال الإجراءات الإدارية المتوقفة، ونقلها من الرقم الإداري إلى الرقم الوطني، والدفاع عن أي تجاوزات تمارس ضد عديمي الجنسية في التعاملات اليومية."
أما الشابة خديجة، ذات الـ25 عامًا، ابنة مدينة أوباري، فقد انضمت هي الأخرى إلى حراك "لا للتمييز"، وهو ما تعزوه إلى التمييز الذي واجهته بعد إنهائها دراسة الثانوية العامة، حيث رُفض طلبها للحصول على النتيجة النهائية للتخرج لأنها من عديمي الجنسية، ولأن الرقم الإداري غير معمول به في المنطقة التي درست فيها.
تقول خديجة: "لقد اضطررت للانتقال من المنطقة التي أسكن فيها إلى منطقة أخرى، وذلك لوجود نسبة كبيرة من الناس في مثل حالتي. ورغم قانونية الدراسة باستخدام الرقم الإداري، حيث تكفل القوانين المعمول بها حاملي الأرقام المؤقتة حقهم في التعليم المجاني في المدارس والتعليم المدفوع في الجامعات، إلا أن هذا إجراء تمييزي عنصري يمارسه البعض ضدنا."
وفي عام 2020، أصدر رئيس وحدة شؤون المأذونين الشرعيين قرارًا لجميع المأذونين في الجنوب الليبي بعدم إبرام أي عقود زواج جديدة لحملة الأرقام الإدارية.
عاصم (اسم مستعار)، أحد المتضررين من فاقدي الهوية العرب، يبلغ من العمر 37 عامًا وأعزب. تحدث بحزن لبي بي سي قائلًا: "تقدمت لخطبة فتاة والدها أكاديمي جامعي حاصل على الدكتوراه ومن المفترض أن يكون منفتحًا. كانت الفتاة زميلتي في مشروع عملنا فيه سويًا. في البداية كان مرحبًا جدًا، لكنه تأخر في الرد، وبعدها رد قائلًا إن الأهل غير موافقين. أعرف السبب، لأني عديم الجنسية. شعرت بالإهانة، ومع قرار منع تحرير عقود الزواج دون رقم وطني، أغلقت موضوع الزواج نهائيًا، إلا إذا حصلت على الرقم الوطني أو هاجرت."
يعاني بعض عديمي الجنسية من صعوبات في تسجيل مواليدهم حديثي الولادة في منظومة السجل المدني.
عمر (اسم مستعار)، موظف في السجل المدني، قال لبي بي سي: "نحن نحصرهم، نسجل أولادهم وزوجاتهم، نسجل عقود الزواج إذا جاءت من المحكمة أو المأذون. التوقف ليس قرارنا، فنحن جهة تنفيذية." أما فيما يتعلق بالمستخرجات المتمثلة في شهادة الميلاد والإقامة ووضع العائلة ومستخرجات المواليد، يقول عمر: "نعم، توقفنا لفترة معينة نتيجة أمور فنية، خلل في المنظومة، والآن تعمل بشكل طبيعي منذ 2023."
بين أوزو وليبيا تنص المادة 186 من مسودة الدستور الليبي المتعلقة بالجنسية على أن تلتزم الدولة بالبت في طلبات إثبات الجنسية المقدمة قبل عام 2011، كما تلتزم الدولة بتصنيف أوضاع حملة الجنسية العربية بين الجنسية الأصلية والجنسية المكتسبة.
قال سنوسي حامد، ممثل التبو في الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، وهي الهيئة المعنية بإعداد دستور جديد لليبيا بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي، والتي شملت جميع المكونات في محاولة للوصول إلى توافق على حقوقهم، لبي بي سي: "رفضنا مسودة الدستور الليبي الحالية ولم نصوت عليها، وقاطعنا الجلسات لأسباب مختلفة، من أهمها موضوع الجنسية، إذ يجب عليهم صياغة النص الدستوري ليشمل كل الليبيين، فالقانون يخاطب العرب فقط".
وعن التضييق ضد التبو، يشير سنوسي إلى أنه بعد الحرب التشادية الليبية، ازدادت الأزمة بسبب وجود التبو في كل من ليبيا وتشاد. ويقول: "تحول الأمر إلى سياسة انتقامية من نظام القذافي بعد هزيمته في الحرب، وزاد الخناق علينا وتراكمت المشاكل مع مرور السنوات وصولاً إلى فترة التسعينات، عندما صدر قرار بإيقاف جنسيات التبو ومواطنتهم ومنعهم من الحصول على جوازات السفر والأوراق الثبوتية. لقد اتبعوا سياسة التضييق الإجرائي؛ فالتباوي ليبي، ولكن عند تقديم طلب للحصول على أي مستند، يتم وضع العراقيل، كالمطالبة بورقة تثبت الأصل الليبي، رغم أننا مواطنون بالأصل. هناك خلل في القوانين الليبية المتراكمة، سواء للطوارق العائدين أو من لديهم أصل الجنسية، ويتم التمييز ضدهم."
الأمن القومي وفوضى التشريع يُرجّح محللون وسياسيون ليبيون أن فوضى التشريع وعدم تطبيق بعض القرارات المتعلقة بمنح الجنسية قد تكون السبب وراء عدم منح الجنسية لبعض فئات المجتمع، مثل القرار رقم 328 لسنة 2009 الذي يتيح منح الجنسية العربية لكل عربي يدخل الأراضي الليبية ويرغب في الحصول عليها. بالإضافة إلى ذلك، هناك القرار رقم 53 لسنة 2011 الذي نص على منح الجنسية لبعض عائلات الطوارق التي استوفت شروط الحصول عليها.
ومن الأسباب الأخرى، إهمال عديمي الجنسية في تقديم طلبات للحصول على الجنسية، كما يرجع البعض ذلك إلى "المخاوف من تأثير ذلك على الأمن القومي والتركيبة الديمغرافية للبلاد"، كما جاء في طلب قدمه طلال المهيوب، النائب في البرلمان الليبي ورئيس لجنة الدفاع والأمن القومي، إلى النائب العام لفتح تحقيق بشأن قرار رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة بتشكيل لجنة لمنح الجنسية الليبية وإثبات صحة الانتماء للأصل الليبي. وقد وصف المهيوب القرار بأنه "خطير للغاية" معتبرًا أنه يهدد الأمن القومي للبلاد ويؤثر على التركيبة السكانية في بعض المناطق.
فيما ترى السلطات الليبية أن تسوية أوضاع عديمي الجنسية مرتبطة باستقرار البلاد وإجراء انتخابات دستورية وبرلمانية.
ورقة رابحة الناشط المدني ميمون الشيخ، من فاقدي الجنسية من الطوارق، تحدث عن "انتهاكات واضحة وصريحة" في السنوات الأخيرة لحق المشاركة في الانتخابات بجميع أنواعها، رغم أن هذا الحق منصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهي معاهدة متعددة الأطراف اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتلتزم فيها الدول الأعضاء باحترام الحقوق المدنية والسياسية للأفراد، وليبيا موقعة على هذه الاتفاقية.
وبحسب الشيخ، فقد تم إقصاء فئة كبيرة من الليبيين الحاملين للأرقام الإدارية والمقيدين في السجلات المؤقتة للدولة من المشاركة السياسية. فبعد أن سمح لهم المجلس الوطني الانتقالي بالمشاركة في انتخابات المؤتمر الوطني العام سنة 2012م، حرموا بعد ذلك من المشاركة في انتخابات مجلس النواب، وحرموا من المشاركة أيضًا في انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور دون ذكر أسباب مقنعة لعدم مشاركتهم.
ولكن في المقابل، يقول الشيخ إنه "تم تجنيد عديمي الجنسية وشاركوا في الحروب والصراعات سواء في عهد القذافي أو ما بعده، ليقضي عدد منهم نحبه، من بينهم من ماتوا لعدم تمكنهم من السفر إلى الخارج لتلقي العلاج".
ويضيف: "لقد أصبحنا ورقة رابحة لهم، وخاصة أن أغلب هذه الأسر فقيرة ومهمشة وتعيش في أحياء تفتقر لأدنى متطلبات العيش الكريم".
بين وعود الدولة وحراك الناشطين، لا يزال عديمو الجنسية ينتظرون حلًا شاملًا لقضيتهم، معلقين آمالهم على استقرار ليبيا وإجراء الانتخابات لإيجاد تسوية عادلة.
ومع ذلك، تقول خديجة إن الوعود من قبل الدولة كثيرة، ولكن لا شيء يتغير على أرض الواقع. "يتحججون بالأمن القومي والنسيج الاجتماعي. نحن جزء من هذا النسيج، كيف لنا أن نفسده؟ أنا مولودة في ليبيا، وثقافتي ليبية، درست وعشت هنا. إنها أرض أجدادي، كيف لي أن أكون غير ليبية؟"
منذ ساعتين