حين سيعاين المؤرخون النزعات الاجتماعية والاقتصادية التي اتسم بها العقد الماضي، قد يصدمهم الاختلال الوظيفي البليغ الذي حلّ بأقوى دولة في العالم. إذ يعاني الأميركيون من تدهور أحوالهم برغم التطور التقني الهائل وما يرافقه من نموّ اقتصادي جيد. حتى أن كثير من الناجحين يخشون ألا يتمكنوا من تمرير هذا النجاح إلى أبنائهم. كما أن الأميركيين راكموا ديناً عاماً لا يمكن الاستمرار به ولا تلوح أي بوادر حل له.
لذا، فيما كان فوز دونالد ترمب مفاجئاً لكثير من الناس، فإن العوامل التي أفضت إليه كانت تتفاعل منذ انتخابه أول مرة في 2016. كما أوضحت في كتابي (End Times) الذي صدر في 2023، فإن الأزمة التي نمر بها ليست حالةً فريدةً.
انتظمت المجتمعات البشرية المعقدة على هيئة دول منذ 5000 عام، وهي غالباً ما تنعم بفترات من السلام والنظام الداخليين قد تمتد لقرن، إلا أنها تدخل حتمياً بمراحل من اضطرابات اجتماعية حادة وتفكك سياسي أي "زمن النهاية". لنستذكر كأمثلة على ذلك الثورتين الفرنسية والروسية و الحرب الأهلية الأميركية.
مزيج متفجر لكن ما السبب؟ لقد درس فريق العمل لدي مئات الأزمات التي شهدها التاريخ على مدى آلاف السنين بتمعن، وتوصّل إلى عامل مشترك يؤشر إلى زمن النهاية وهو حالة من "الإفراط في إنتاج النخب". ويعني ذلك تزايداً كبيراً في عدد الساعين للانضمام إلى الطبقة النخبوية وهم يتنافسون على عدد محدود من مواقع النفوذ.
يشبه الأمر لعبة الكراسي الموسيقية، ولكن عدد الكراسي يبقى ثابتاً بينما يتزايد عدد اللاعبين باضطراد. مع تقدم اللعبة، يزداد عدد الخاسرين فيتحول بعضهم إلى "أعداء للنخب" ويتحدون النظام القائم، كما كان حال فلاديمير لينين والبلشفيين في روسيا، أو فيديل كاسترو والباربودوس في كوبا. يُعد هذا العامل من الأسباب الرئيسية التي تدفع المجتمعات المعقدة نحو زمن النهاية.
أما السبب الآخر فهو البؤس الجماعي، الذي يتظاهر عبر تدهور أوضاع العامة. هذا البؤس، حين يترافق مع الإفراط في إنتاج النخب، يخلق مزيجاً متفجراً. في هذه الحالة، ينظم أعداء النخبة صفوفهم، ويستغلون السخط الشعبي في مسعاهم للإطاحة بالطبقة الحاكمة.
تحولات داخل الحزبين كيف يمكن لهذه المعطيات أن تساعدنا على فهم المشهد السياسي المضطرب داخل الولايات المتحدة اليوم؟ بشيء من التبسيط، تتألف الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة من تحالف يجمع أصحاب الثروات (أو ما يعرف بطبقة 1% التي كان يمثلها الحزب الجمهوري حتى وقت ليس ببعيد) والنخب الأكاديمية والمهنية العليا، أو ما يُعرف بنسبة العُشر التي يمثلها الحزب الديمقراطي.
لكن الحزبين الرئيسيين شهدا تحولات سريعة خلال العقد الماضي، بخاصة الجمهوري، الذي بات ينظر إليه البعض كحزب ثوري يتبنى الشعبوية اليمينية المتطرفة، فيما يراه البعض الآخر حزباً يمثل مصالح الطبقة العاملة.
بدأ هذا التحول مع فوز ترمب المفاجئ في 2016. بالطبع لم يكن ترمب ثورياً، فهو رجل أعمال سياسي نجح في توجيه السخط الشعبي، خاصة في أوساط الأميركيين البيض الذين لا يحملون شهادات جامعية، كي يوصله إلى سدة السلطة. لكن حين تولى الرئاسة حاول الإيفاء بوعوده الانتخابية، وهو ليس من مألوف صفوف الساسة المتأصلين.
لم تكن كل مبادراته موجهة ضد مصالح الطبقة الحاكمة. على سبيل المثال، زادت إصلاحاته الضريبية من إجحاف النظام الضريبي تجاه ذوي الدخول الأدنى. لكنه اتخذ مواقف مضادة لأولويات النخبة الاقتصادية في قضايا أخرى، وربما كانت أكثر سياساته إثارة للجدل تلك المتعلقة بمناهضة الهجرة، وهي قضية تدعمها النخبة الاقتصادية لأنها تسهم في إبقاء أجور العمال منخفضة.
وكذلك كانت مناهضته لنهج السوق الحرة التقليدي للحزب الجمهوري، الذي فضل عليه السياسات الصناعية. أضف إلى ذلك تشكيكه في أهمية حلف شمال الأطلسي، ورفضه الانخراط في حروب جديدة.
رأس جبل الجليد في 2020، ظنت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة أنها نجحت في سحق هذه الثورة. فقد تمكّن الحزب الديمقراطي من السيطرة على جناحه الشعبوي، ليصبح الحزب الممثل للطبقة الحاكمة التي تضم فئتي 1% و10% معاً. تجلى ذلك في تفوّق إنفاق حملة كامالا هاريس مقارنة مع حملة ترمب بفارق كبير خلال الانتخابات الأخيرة، بالإضافة إلى حصول هاريس على دعم شخصيات جمهورية بارزة مثل ليز وديك تشيني، ومحافظين جدد أمثال بيل كريستول.
في المقابل، حقق ترمب نجاحاً بارزاً في إعادة تشكيل الحزب الجمهوري وتحويله إلى حزب يميني شعبوي. فقد تقاعد بعض من منتقديه من الجمهوريين التقليديين، فيما هُزم آخرون في صناديق الاقتراع، و انضم كثير منهم إلى صفوف الحزب الديمقراطي. أما من تبقى، فيفضلون الابتعاد عن الأضواء بينما ينحنون أمام القائد العائد.
برغم هوس وسائل الإعلام التقليدية والسياسيين بشأن ترمب، لا بد من التذكير أنه لا يعدو كونه رأس جبل جليد، فما حصل في انتخابات 2024 كان تحلقاً لتحالف متنوّع من معادي النخب حول ترمب. بعضهم مثل جي دي فانس، صعدوا داخل الحزب الجمهوري بسرعة فائقة، وآخرون مثل روبرت ف. كينيدي وتولسي غابارد، انشقوا عن الحزب الديمقراطي.
ضمت قائمة معادي النخب من غير السياسيين، أشخاصاً مثل تاكر كارلسون الذي سُرّح من عمله في "فوكس نيوز" ثم أطلق برنامجاً مستقلاً حقق نجاحاً كبيراً عبر منصة "إكس"، وقطب الأعمال إيلون ماسك الذي تعرض لانتقادات لاذعة من طرف الإعلام التقليدي والساسة بسبب استحواذه على منصة "تويتر" التي أصبح اسمها "إكس" واستخدامه لها في الترويج لترمب.
استبدال النخب يمكنني أن أسهب في هذا الشأن، لكن الخلاصة أن ما جمع كل هؤلاء المعادين للنخب (وغيرهم ممن لم أذكرهم) هو الضغينة التي يكنّونها للطبقة الحاكمة. قد يتساءل المرء اليوم إذا كان باراك أوباما نادماً على سخريته من ترمب خلال حفل عشاء رابطة المراسلين في البيت الأبيض عام 2011.
كما ذكرت في (End Times)، وقعت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة بمأزق تكرر آلاف المرات على امتداد التاريخ البشري. فكثير من الأميركيين تخلوا عن تأييدهم للنخبة الحاكمة، أو على حدّ قول كارلسون عبروا عن ازدرائهم للطبقة الأميركية الحاكمة.
هذا الارتفاع الكبير في أعداد الأشخاص المؤهلين الطامحين للانضمام إلى طبقة النخبة، الذين أحبطهم الفشلهم في بلوغ مواقع نفوذ، يشكل أرضية خصبة لإنتاج المعادين للنخب ممن يحلمون بالإطاحة بالنظام القائم. في غضون ذلك، كثير من أصحاب الثروات غير مستعدين للتضحية بأي من امتيازاتهم لصالح الحفاظ على استمرار الحال القائم، وهذا كله يشكل ما يصح توصيفه تقنياً على أنه "حالة ثورية".
بالنسبة للطبقة الحاكمة، توجد طريقتان لا ثالث لهما للخروج من "الحالة الثورية" هذه، أحدهما يقود إلى سقوطها، أمّا الآخر هو أن تدعم الطبقة الحاكمة إصلاحات تعيد التوازن للنظام الاجتماعي، وبالتالي تعالج حالتي البؤس الجماعي والإفراط في إنتاج النخب. سبق أن حصل ذلك في الولايات المتحدة، قبل ما يقارب قرن مضى مع فرانكلين روزفلت وما يُسمى الصفقة الجديدة.
تسألت في كتاباتي قبل سنتين: هلي يمكن تحقيق ذلك مجدداً؟ اليوم، في أعقاب انتخابات 2024، أصبح الجواب أوضح. إذا نجح ترمب وحاشيته من معادي النخب في تحقيق مرادهم، وهو أمر يزداد ترجيحاً، فإن ذلك يعني أننا نتجه نحو استبدال طبقة النخبة وليس نحو إصلاح تدريجي.
منذ 3 ساعات