رأَى (شُوبنهاور) أنَّ المُوسيقى، الفنُّ الوَحيدُ القادِرُ على كشْفِ لِثامِ الحَقِيقةِ، فيمَا يَخُصُّ جوْهرَ الوُجودِ في ذاتِهِ، فالمُوسِيقى لا شَكلَ لهَا، بِمعْنى أنَّها غيرُ مُتمثِّلةٍ، وهيَ بِهَذا لهَا صِفةُ الوُصولِ المُباشِرِ إلى الإرادةِ، مُتجاوِزةً الفِكرَ، وهوَ يَرى أنَّ «تَقديرَ الفنِّ والجَمالِ، وبِخاصَّةٍ المُوسِيقى، يَمنحُ الحُرِّيةَ مِن البُؤسِ الفرْديِّ».
ومِن أبلَغِ ما كَتبَ الشَّاعرُ الفيلسوفُ (نيتشِه) عن سِحرِ المُوسيقى: «الَّذينَ شُوهِدُوا وهُمْ يَرقُصُونَ، كانُوا مَجانينَ في نَظرِ الّذينَ لمْ يَستَطيعُوا سَمَاعَ المُوسِيقى»، ورَأى في الوقتِ ذاتِهِ، أنَّه لوْلا المُوسِيقى لَكانَت الحَياةُ «غَلْطةً»!. أمَّا (آينِشتاين) فكانَ مُهتمًّا بالعزْفِ والمُوسِيقى، وقدْ أظْهرَ رغبةً عَمِيقةً في نفسِهِ بأنْ يكونَ مُوسِيقيًّا لوْ لمْ يكُن فِيزيائيًّا، وفي هَذا السِّياقِ يقولُ: «غَالبًا ما أُفكِّرُ في المُوسِيقى، أعِيشُ أحلَامَ اليَقَظةِ في المُوسِيقى، أرَى حَياتِي مِن مَنظورِ المُوسِيقى».
وعلميًّا، فالاستماعُ للمُوسِيقى والأَغانِي الطَّرَبيةِ والأصواتِ الشَّجيَّةِ المُحَبَّبةِ للنَّفسِ، يُثيرُ مَركزَ المُكافأةِ في المُخِّ، ويَبعثُ على تَحسُّنِ المِزاجِ وجلْبِ اللَّذةِ والبَهجةِ. وسواءً وافَقَ رأيكَ ومُعتَقدَكَ أمْ لمْ يُوافِق، فالأَثرُ الإيجَابيُّ للمُوسيقى والأَنغامِ في المُسَاعدَةِ على عِلاجِ بعضِ الأمْراضِ العُضويَّةِ والنَّفسيَّةِ والاضطراباتِ السُّلوكيَّةِ، مُثبتٌ عِلميًّا، وقدْ كانَ الفَيلسوفُ العَرَبيُّ (الكِنديُّ) مِن أوائِلِ الأطبَّاءِ المُسلِمينَ، الّذينَ عالَجُوا مَرضَاهُمْ بالمُوسِيقى. يَقولُ الإمَامُ (أبوحامِد الغَزاليِّ): «مَنْ لمْ يُحرِّكهُ الرَّبيعُ وأزهارُهُ، والعُودُ وأوْتارُهُ، فهُوَ فاسِدُ الـمِزاجِ، ليسَ لهُ عِلاجٌ».
يَبدُو أنَّ الموسِيقى تُعطِي للحياةِ بُعدًا رابعًا، والشَّغَفُ بِها مِن طَبَائعِ المُتأمِّلينَ والمُبدِعينَ وأصحابِ الذَّوقِ الرَّفيعِ، والحسَاسيَّةِ المُفرِطةِ أيضًا، إنَّها تُدَغدِغُ مَركزَ الجُنونِ في الدِّماغِ، إنْ كانَ موجودًا! فالاستِماعُ للمُوسِيقى لدَى بَعضِهِم، نوعٌ مِن الهَذَيانِ والارتقاءِ الرُّوحيِّ، خاصَّةً حينَ يلجأُونَ للصَّمتِ والهُدُوءِ والانعِزالِ. يقُولُ (إميل سِيوران): «المُوسِيقى جُنونُ الصَّمتِ». إنَّ المُوسِيقى غايةٌ لِذاتِها، ولوْلَاها، لأَصابَ كَثِيرينَ القَهرُ والمَرضُ، فهيَ مِن عِلاجاتِ المِزاجِ الَّتي تُشتِّتُ الذِّهنَ عن التَّعمُّقِ في الانفعَالاتِ والآلامِ، والمُعضِلاتِ الفِكريَّةِ النَّفسيَّةِ والوُجودِيَّةِ، وَلوْ مُؤقّتًا.
وعَن نَفسِي، لَطالَمَا أحببْتُ المُوسِيقى، وكرِهْتُ «التَّطْبيلَ»، وأجدْتُ العَزفَ المُنفَرِد!.. والحمْدُ للهِ.. أنَّني أتَعاطَى كثيرًا مِن جُرْعاتِ المُوسِيقى!. وخِتامًا، مَاذا لوْ كانتْ وسيلتُنا الأسَاسيَّةُ للتَّواصِلِ، هيَ تبادُلُ الألْحانِ المُوسِيقيَّةِ والأَغانِي الطَّرَبيَّةِ، دونَ الحَاجةِ للكَلَامِ؟!.
منذ 9 ساعات