"وإن يأتوكمْ أُسارى تُفادوهم وهو محرَّمٌ عليكمْ إجراجُهم".. هكذا وبخ المولى - عز وجل- اليهود، وعرفنا وإياهم قبيح أفعالهم، التي مثلما كانت في الماضي البعيد تواصلت في الحاضر الذي نعيشه، لتكون قضية الأسرى في سجون الاحتلال وتحديدًا الذين اعتُقلوا من غزة بعد السابع من أكتوبر هم دليل بيّن للعيان.
ومنذ أن استعرت الحرب الإسرائيلية في غزة، والتي تدور رحاها منذ 7 أكتوبر من العام الماضي، حرصت إسرائيل كل الحرص على استعادة أسراها، الذين هم بحوزة المقاومة الفلسطينية.
وبشهادة الرهائن الإسرائيليين الذين أُفرج عنهم خلال صفقة تبادل الأسرى في أواخر نوفمبر من السنة الفائتة، فإن المقاومة الفلسطينية أحسنت معاملة هؤلاء ولم تتعرض لهم بسوء، بينما على النقيض تذيق إسرائيل المعتقلين الفلسطينيين، وتحديدًا المأسورين في غزة، العذاب صنوفًا وألوانًا، بإجرام لا مثيل له لم تره الأعين ولم تسمع به الآذان من قبل، ولكنها رواية سُطّرت بحروف اعتاد كاتبوها من تل أبيب التلفيق والتدليس والتزييف.
يدٌ تمسك صاعقًا كهربائيًا وأخرى تُطلق كلابها، وبين اليدين يُلاقي الأسرى أبشع أنواع العقاب المسلط في مشهد يعاقب فيه المجرمون الجناة ضحاياهم، دون أي يد تقتص من هؤلاء المجرمين.
وبحسب التقارير الرسمية الصادرة عن مؤسسات الأسرى الفلسطينية، فإن عدد الأسرى في سجون الاحتلال تجاوز الـ10 آلاف أسير منذ 7 أكتوبر 2023، دون أن يشتمل هذا العدد لأعداد معتقلي غزة، الذين لم يتم حصرهم أو الوصول إلى بيانات تكشف عددهم الحقيقي على مدار أكثر من 400 يوم من الحرب.
تحقيق| «العدوان الثالث».. نوثّق شهادات الموت والتشبث بأطراف الحياة من شمال غزة
اعتقالات غزة «سر» يحتاج سنوات لكشفه
ويقول حسن بكر قنيطة، مدير عام هيئة شؤون الأسرى والمحررين في غزة، "لدينا الآن 10500 أسير منهم 3400 معتقل إداري، ومنهم 95 أسيرة، وهذا الرقم دون أسرى غزه، الذين اعتُقلوا خلال الحرب، والذين يقدروا بالآلاف، وليس لدينا إحصائية عنهم بسبب الإخفاء القسري من الاحتلال لأسرى غزة والجرائم التي يخفيها بحقهم".
ويضيف قنيطة، في تصريحات لـ"بوابة أخبار اليوم"، "الاحتلال اعترف بالمجمل بـ4500 أسير في غزة، ولكن نحن نقدر العدد بالآلاف، وجباليا وحدها ما يقارب الألف أسير في الأيام الأخيرة فقط"، متابعًا: "اعتقالات غزة سر يحتاج لسنوات لنكتشف حجم الجريمة التي تُرتكب بحق معتقلي غزة.. وهناك إعدامات وإخفاء وتعذيب واغتصاب".
ويمضي قائلًا: "قبل خمسة أيام فقط أُفرج عن ثلاثة وتم إعدامهم بإطلاق النار عليهم من الخلف بعد لحظات من الإفراج عنهم".
ويشير قنيطة إلى أن قانون المقاتل غير الشرعي طُبق خصيصًا لأسرى ومعتقلي غزه واستُخدم للإمعان في ممارسة الانتهاكات بحق معتقلي غزة.
وحول المفرج عنهم من أسرى غزة بعد اعتقالهم من قبل الاحتلال، يقول مدير هيئة الأسرى بغزة، "المفرج عنهم بالعشرات لا يتجاوزن المائة، وهناك قصص مرعبة لهم، أما الأسرى ما قبل الحرب، هناك أقل من 20 أسيرًا من أصحاب الفترات تم الإفراج عنهم بعد الانتهاء من مدة حبسهم بأشهر منهم 11 شهرًا، وزيادة عن حكمهم بأوامر من المجرم (وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار) بن غفير".
ويواصل قنطية قائلًا: "قصص وروايات الأسرى المفرج عنهم أغلبها تتمحور في ممارسات التعذيب والإهمال الطبي وغياب النظافة وانتشار الأمراض الجلدية، أهمها الجرب وما يُعرف باسم «سكابيوس» وسياسة التجويع".
ويوضح قنطية أن السكابيوس هو مرض جلدي منتشر بين أوساط معتقلي غزة ويظهر بفعل غياب النظافة والاستحمام وتغيير الملابس.
ويؤكد قنطية أن أغلب الأسرى يخرجون عبارة عن هياكل عظمية، إلى جانب ذلك حرمان من الاستحمام وتغيير الملابس إضافة إلى حرمانهم من لقاء الصليب الأحمر أو المحاميين والاستمرار في منع زيارات الأهل.
ومن بين جموع الأسرى الذين زًج بهم في سجون الاحتلال، هناك من كُتب له النجاة والخروج من معتقلات الاحتلال الظالم سجانها، وهم فئة قليلة خرجت بعدما ذاقت المعاناة هناك.
أوضاع مأساوية وخطيرة
ويروي الأسير المحرر نائل النجار من غزة، الذي أمضى 21 سنة، داخل سجون الاحتلال، وأُفرج عنه مؤخرًا في يوليو المنصرم، تفاصيل ما حدث داخل سجون الاحتلال وتحديدًا مع معتقلي غزة.
ويقول النجار، في تصريحات لـ"بوابة أخبار اليوم"، "الأوضاع داخل السجون هي أوضاع بالفعل مأساوية للغاية وخطيرة على حياة الأسرى".
ويسرد النجار تلك الأوضاع فيقول: "أولًا الأوضاع الإنسانية التي يمرون بها منذ بدء الحرب على غزة، فقد تم سحب كل الإنجازات التي حققتها الحركة الأسيرة من ملابس ومقتنيات وكنتينة الأسرى وكل الأدوات الكهربائية حتى الأحذية، وأساليب الضرب والعزل والتفتيشات في كل وقت والتفتيشات العارية وتقليل نسبة الطعام، والحرمان من كل المشروبات الساخنة ومنع زيارات الأهل والعزل للأسرى، ومن هنا تفشت الأمراض بين الأسرى وأمراض وبائية".
ويضيف النجار: "إلى جانب ذلك، إدخال الأسير في مكان مغلق وإدخال الكلاب عليه، واستخدام كل وسائل القمع ضد الأسرى، وعدم الاهتمام بكل الحالات المرضية ومنع إعطاء العلاج للمرضى، ومنع المياه الساخنة وتقليص حصة المياه.. فقط يعطون الأسرى ساعة واحده لاستخدام المياه، وهذا في سجن النقب الصحراوي".
قيود غير آدمية
ويعدد نائل النجار أشكال الانتهاكات التي تُمارس ضد معتقلي غزة في سجون الاحتلال، فإلى ذلك هناك الحرمان من "الفورات" أي الخروج الى الساحات، وإبقاء الأسرى داخل الغرف، وعدم إخراج الأسرى لرؤية الشمس مما أدى لتفشي الأمراض الجلدية، وتم تقليص نسبة الخبز أقل من النصف المسموح لكل أسير".
ويُكمل قائلًا: "تم مصادرة كل شيء كان عند الأسرى.. حتى الساعات التي بأيدي الأسرى سحبوها منا، ومواد التنظيف تم سحبها كذلك".
ويحكي الأسير المحرر كيف تم الإفراج عنه قبل نحو أربعة أشهر من سجون الاحتلال، فيقول: "أنا أمضيت 21 عامًا (في السجن) وعندما أبلغوني بأنك منقول إلى قسم آخر، وعندما نزلت من القسم لخارجه تبين بأنهم سيفرجون عني وبالانتظار وجدت أسرى آخرين".
ويضيف قائلًا: "بعدها أخرجونا من السجن لبوسطة الإفراجات وأخذونا إلى موقع عسكري قريب من حدود غزة، وفي الساعة الثالثة صباحًا وضعونا في حافلة الإفراجات وأطلقونا على الحدود في منطقه كوسوفيم مقابل دير البلح".
ويتم حديثه قائلًا: "من وقت ما أخذونا فيه إلى حد ما تم إطلاقنا على الحدود ونحن مقيدون ومعصوبو الأعين".
وفي صحراء النقب جنوب الأراضي المحتلة، هناك عالمٌ آخر انتزع فيه من قلوب السجانين الإسرائيليين أي معانٍ للإنسانية في معسكرٍ يُسمى "سدي تيمان" يفوق الإجرام فيه سجني جوانتنامو وأبو غريب، ويقبع فيه آلاف الأسرى من قطاع غزة في معسكرات سرية أراد الاحتلال أن يُخفي فيها معالم جرائمه، التي تخطت حاجز تصديق الأذهان.
وحصلت بوابة أخبار اليوم على صورٍ ومشاهد قاسية لتعذيب الأسرى في معتقل سدي تيمان، الذي خُصص لمعتقلي غزة بعد السابع من أكتوبر.
«تعرضت للتعذيب لأني حاولت ستر فترة»
وهنا يسرد الأسير المحرر إبراهيم شاهين، الذي أمضى نحو 50 يومًا في معتقل سدي تيمان، بين شهري ديسمبر 2023 ويناير 2024، وقائع ما حدث معه ويحدث لمعتقلي غزة في هذا المعسكر.
ويقول شاهين لـ"بوابة أخبار اليوم"، "أود أن أخبرك أن الفواجع داخل المعتقل لم يسبق لها مثيل، حيث اليوم الاعتقال في سجن أبو غريب ممكن أفضل من السجن داخل معتقل سدي تيمان".
ويروي إبراهيم شاهين تفاصيل اعتقاله وما حدث معه، "أنا على مستواي الشخصي تم اعتقالي يوم 3 ديسمبر 2023، ومكثت في مكان عسكري اسمه زيكيم لـ3 أيام في أشهر المطر في العراء في برد قارس، وبعد ذلك تم نقلي إلى مركز تحقيق إيرز".
ويردف قائلًا: "هناك تعرضت لضرب مبرح لمدة 3 أيام بسبب إني قمت بستر فتاة كانت شبه عارية، لإني حاولت أن أستر عرض بنات غزة وأحافظ على شرفهن قام أحد الجنود بضربي بكل أنواع العذاب، وقام بركلي بقدمه والضرب على رأسي بسلاح والضرب في أماكن حساسة بجسمي".
جلسات كهرباء باستخدام الكلاب
ويروي إبراهيم شاهين أنه " من أصعب الأوضاع أنك تكون مقيد القدمين واليدين طوال فترة الاعتقال ومعصب العينين، حتى حينما تدخل الحمام تكون مقيد اليدين"، فيقول: "أنا على المستوى الشخصي تعرضت لست جلسات كهرباء، منهم 4 جلسات كهرباء باستخدام الكلاب، وتعرضنا لصعقات كهربائية تجعلك تفصل عن الوعي، ويقوم بإيقاظك عن طريق استخدام المياه".
ويضيف: "هناك أيضًا جلسات الكهرباء بالكلاب، فيجعلون الأسير يفترش الأرض على بطنه ثم يمررون عليه الكلاب، ويمر كذلك جنود جيش الاحتلال ويقومون بالضرب المبرح بشتى الأنواع وباستخدام العصي الكهربائية، وكان يجعلون الكلاب تتبول على رأس الأسير".
ويسهب شاهين في سرد تفاصيل الأوضاع في المعسكر، أنه "في أحد جلسات المخابرات للانتظار في بعض المرات كان يتم تقيدي وإجباري على النوم عاريًا على زلط مسنن كان أشبه بوخز الأبر أثناء النوم، وضابط المخابرات يقوم بالضرب أثناء التحقيقات ولم يكن يعنيه التحقيق ولكنه هدف الضرب".
ويمضي الأسير المحرر قائلًا: "كان من أصعب الأشياء داخل السجن أنه من كثرة القيود في اليدين يصير هناك جروح وتقرحات في اليدين والقدمين.. كان يعذبون الأسرى ويتفننون في إظهار الدماء من يديهم".
حالات اغتصاب في المعتقل
ويستذكر إبراهيم شاهين الأوضاع التي قاسها هناك، ويقول: "من أصعب الأشياء أيضًا هو الإهانة على طول الوقت، سواء في المعسكر أو في جلسات التحقيق"، مضيفًا: "لدينا أسير من سكان غزة اسمه محسن عايش هو فقد الوعي داخل المعتقل، وهناك أسرى خرجوا وهم فاقدون للذاكرة".
وبالنسبة للأسيرات، يقول شاهين: "كان الجنود يقومون بتعريتهن وقص شعرهن ونزع الحجاب عنهن كمسلمات وهو ما كان يثير مشاعر الأسرى".
ويتحدث شاهين عن أنه كان هناك معتقلون يتعرضون لعمليات اغتصاب، وهذا أصعب سجن من بين سجون الاحتلال بشهادة من خرجوا من هناك.
اعتقال بسبب جثة الوالدة
ويحكي شاهين عن سبب اعتقاله هو جثة والدته، التي قام بدفنها، حيث زعم جيش الاحتلال أنها لذويهم، مضيفًا أنه "بعد 35 يومًا من اعتقالي جاءني ضابط المخابرات وقال لي نحن سنعرف إذا كانت هذه جثة والدتك أم جثة أبنائنا، وهم قد صادروا جثة أمي من داخل مقبرة بقطاع غزة لوجدها في الخط الأخضر لليهود، تم أخذ عينة DNA مني ومن الجثة، وتم ثبوت أنها جثة أمي وتم الإفراج عني بعدها".
ويضيف: "بعد أربعة أشهر من الإفراج عني أخرجوا جثة أمي وقمت بدفن رفاتها في خان يونس والجثة شبه محللة".
وبحسب ما قاله إبراهيم شاهين، فقد اعتُقل في 3 ديسمبر، وأفُرج عنه في 24 يناير من معسكر سدي تيمان ليروي لنا قصة ما عاصره هناك من عذاب لا مثيل له في معسكر سري كُتب أن تفشى أسراره على يد من نجوا من ويلاته ليكون شهداء على احتلال إسرائيلي جثم على صدور الفلسطينيين فوق الأرض وتحتها ولم يسلم منه حتى جثث من رحلوا عن عالمنا.
منذ 12 ساعة