منذ 3 أيام
ماذا تخسر المجتمعات من غياب «التسامح»؟

ما من شك أن المجتمعات الحديثة هي بنت التنوع العرقي والإثني والديني وبالتأكيد ما ينتج عن ذلك من أشكال مختلفة للتنوع الثقافي، ولأنه لا يمكن لمجتمع أن يقفز على حقيقة تنوعه بسبب ما سيصنع ذلك من أزمات تطال بالتخريب بناؤه الاجتماعي ذاته، بل إن إغفال وتعطيل الوعي بهذا التنوع هو أكبر خطر يهدد تماسك وبقاء المجتمع. ورغم تعدد التعريفات لمفهوم التسامح، بل وتداخلها في حقول شتى، إلا أن أقرب وأبسط تعريف هو أن التسامح: يعني القدرة على قبول واحترام (وفي حالتنا العربية: احتمال) الآخر، والإقرار بحقه في الاختلاف، وهذا ما يساعد على تقوية البيئة الاجتماعية، وفتح الطريق أمام أفرادها للتعايش السلمي، وبالتالي إثراء الحياة الاجتماعية بأشكال عديدة من التعبير الثقافي ما يسهم بشكل كبير في صياغة الهوية الشاملة لأي مجتمع من المجتمعات ويحمي بقاءها حية وإيجابية.

والتسامح ينشأ عن عمليات تفاعل مستمرة داخل المجتمعات، وما نريد الإشارة إليه هنا، أن ثمة فارق موضوعي حول سردية التسامح في السياق العربي عنها في التاريخ الاجتماعي الغربي، فالثقافة العربية ومنذ التئام جسدها بدعوة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) قامت على قواعد متينة لبناء المجتمع، فأولى القيم التي جذرها نبينا صلوات الله عليه في دعوته إلى التحرر من الجاهلي فينا (=العصبية القبلية) هي بناؤه المجتمع الجديد على فكرة التسامح والتعايش، ومن الأمثلة واضحة المعالم "الوثيقة" التي وقعها في مدينته الجديدة (يثرب) وهو عهده الذي ركّبَهُ على فضيلة الاعتراف بالتنوع والدعوة الجادة إلى التعايش، فعل ذلك لوعيه المتقدم بأنه لا يقوم مجتمع إلا على حالة من تنوع عميق، لذا صدّر وثيقته، وهي الوثيقة الشهيرة بـ"وثيقة المدينة" حيث كانت المدينة تجمعاً حضرياً ضم الوحدات التقليدية (القبيلة)، كما ضم روح فكرة المدينة وهي التنوع الديني (=اليهود بطوائفهم) كتب في السنة الأولى للهجرة كتابه بين (المهاجرين والأنصار واليهود) واضعاً قواعد للبناء الاجتماعي حتى قبل أن تطرأ الحاجة إليها في عصر النهضة، نقرأ: "هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث (من الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته...إلخ".

كما أننا واجدون في مرجعيتنا العربية وعند ابن منظور دقة في بيان وظيفة التسامح الاجتماعية، يقول: "والمسامحة: المساهلة. وتسامحوا: تساهلوا. وفي الحديث المشهور: السماح رباح أي المساهلة في الأشياء تربح صاحبها. وسمح وتسمح: فعل شيئاً فسهل فيه، وأنشد ثعلب: ولكن إذا ما جلّ خطب فسامحت به النفس يوما كان للكره أذهبا".

أما التسامح في السياق الغربي فإنه وليد الصراع الاجتماعي الذي قسّم المجتمعات الغربية المسيحية بالذات الفترة التي شهدت عمليات الاصلاح البروتستانتي، حيث انفرط العقد الاجتماعي وتناوشت الكيانات القومية في أوروبا الحروب الأهلية حتى انتهت إلى صدور المرسوم الفرنسي الشهير (مرسوم نانت 1598م) المسمى بـ"مرسوم التسامح" والذي جاء استجابة لتوسع الصراع الديني بين المذاهب المسيحية المختلفة، وقد أقر هذا المرسوم السماح بهامش محدود لطوائف البروتستانت للتبشير ببرنامجهم الإصلاحي لكن في حدود ضيقة وتحت تهميش متعمد، ولكن سرعان ما ضاق صدر لويس الرابع عشر ليصدر في العام 1685م قراراً بإلغاء هذا المرسوم والذي دفعه لممارسة قمع ديني راح ضحيته الآلاف. لكن الأمر لم يقف هنا، فقد استمر الشد والجذب في فرنسا بين (العرش والمذبح) كما يقول المؤرخ بول هازاراد في كتابه "أزمة الضمير الأوروبي" حتى افتتح فولتير (1694-1778م) عهد التنوير الفرنسي بل الأوروبي كافة، حيث انتفض ضد دوغمائية الكنيسة الكاثوليكية التي أعلن تحرره من الإيمان بدورها السياسي والاجتماعي، ليكتب في رسالة التسامح الصادرة عام (1763م) مانفستو التسامح في عصر الأنوار، كتب يقول: "أنا لا أتفق معك ولكني سأقاتل حتى الموت حتى يكون لك الحق في أن تقول ما تعتقده".

إنه ولصالح مجتمعاتنا العربية فإننا نحتاج الاستناد إلى مرجعيتنا الثقافية، مرجعيتنا تلك التي تقوم على تعبير عميق عن ذواتنا الاجتماعية، فالمجتمع لا يقوم بناؤه إلا على تحقيق التواصل الثقافي داخل بنيته الأم، بنيته الثقافية، والحقيقة أننا نعيش عصر انتهت فيه أفكار التعصب الديني والمذهبي عالمياً بدرجة ملحوظة، لكننا نعيش حالة متأخرة عن ذلك، بل متأخرة حتى عن تراثنا النبوي الذي صاغ أسس البناء الاجتماعي على اعتراف بالتنوع الديني والعرقي. وفي واقعنا اليوم فإن النضال الثقافي ينبغي أن يتجه لمحاصرة التطرف والعصبيات المذهبية، إذ هي المهدد الأخطر لبقاء مجتمعاتنا سالمة معافاة.

إن النعرات الطائفية التي نعيشها اليوم هي عَرْض لغياب فاعلية قيم التعايش، فرغم لبوس هذا التطرف لمعاني يقول أنها من جوهر الدين، إلا أنها المغالطة الكبرى في السياق العربي الراهن، فالإسلام لم يحارب مشكلة اجتماعية مثل محاربته لمشكلة العصبية بأشكالها كافة، ولسنا في حاجة إلى إيراد الأسانيد من الأثر أو النص القرآني لإثبات ما نقول، فقط يكفي أن نشير بأن الخطاب القرآني جاء متحرراً من أية تبعية لتصنيف عرقي أو ديني، بل هو خطاب للكافة (=للعالمين)، بل حتى في مستويات المغايرة التي يمايز فيها النص بين أتباع الديانات الأخرى، فإنه يشدد على أن دعوته تقوم على فكرة (السلام) أي تحقيق أقصى درجات التعايش عبر الجدال والحوار، والإسلام ليس كما تقول بعض التخريجات بِقَصرِها المعنى على (الاستسلام)، فالدقيق أن الاسم يصلنا بـ"الخضوع إلى إرادة هي الأعلى (=إلى الله سبحانه وتعالى).

إن الحل لمواجهة موجات التطرف وغياب التسامح التي تضرب مجتمعاتنا العربية، أن نعود لدراسة مظاهر الانحراف التي أصابت وعينا الثقافي، وأن نفهم طبائع المجتمع والتي هي في الأصل نتيجة جِماع عمليات التعايش، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق دون تجذير الوعي بالتسامح كفعالية رئيسية في الحياة بين الأفراد.

غسان علي عثمان كاتب سوداني


المزيد من جريدة عمان

منذ 11 ساعة
منذ 11 ساعة
منذ 10 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ 7 ساعات